إشكالات حول الدور السعودي الاقليمي
د. سعيد الشهابي
هل هناك خيط يجمع بين ما جرى في غزة مؤخرا من مواجهة بين حماس و’جند الله’ وما جرى قبل عامين في مخيمي عين الحلوة ونهر البارد من اقتتال بين الجيش اللبناني و’فتح الاسلام’ والصراع على الانتخابات اللبنانية الاخيرة بين السعودية وايران، والتصعيد الدموي في العراق؟
ما دلالات النزوع الخليجي نحو المشاريع النووية في ظل الضغوط الدولية المتصاعدة ضد ايران في ما يخص مشروعها النووي؟ وماذا عن الاحتقان السياسي في ايران بعد الانتخابات الرئاسية التاسعة؟ ما علاقة تلك التطورات برئاسة باراك اوباما التي انطلقت بمقدمات يعتبرها الكثيرون خادعة في مظهرها؟ أليست المعطيات المذكورة جانبا مكملا للنمط الرئاسي الامريكي الجديد؟ قد تكون هذه التساؤلات ‘ساذجة’ او منطلقة من عقلية منتمية لنظرية المؤامرة، او ربما منطلقة بدوافع حزبية او انتماء ايديولوجي محدد، ولكنها تساؤلات مشروعة خصوصا بلحاظ عدد من الامور: اولها وصول ما سمي ‘الحرب ضد الارهاب’ الى حالة الركود التي تفتقد الامل بإمكان جدوى استراتيجية الحرب بالنمط الامريكي، وثانيها: الدفع لإحداث توازن سياسي جديد بعد ما بدا من رجحان لكفة الخيارات الاستراتيجية المنطلقة على خلفية المشروع السياسي الايراني في المنطقة، ثالثها: ازدياد الشعور بخطر تعمق ثقافة المواجهة مع الكيان الاسرائيلي في ظل انجازات ‘حزب الله’ و ‘حماس’ وانتصارهما في مقاومة الحربين الجائرتين اللتين شنتهما قوات الاحتلال الاسرائيلية ضدهما. رابعها: ظهور ملامح افول نجم الولايات المتحدة كقطب أوحد مهيمن على السياسة الدولية، والانعكاسات المحتملة لذلك على حلفائها في المنطقة، خصوصا مصر والسعودية. خامسها: فشل الرهان على القمع والاستبداد لمواجهة تطلعات شعوب المنطقة ورغبتها في اقامة انظمة سياسية متطورة تعيد للأمة قدرا من سيادتها وتواجه سياسات التدخل والغطرسة الدولية التي تهدف للاستمرار في سياسات الاستعباد ونهب ثروات المسلمين.
ثمة قطع شطرنجية عديدة مبعثرة تحتاج لاعادة تنظيم من اجل توضيح حقيقة المشهد العربي الاسلامي الذي يحتوي هذه الصور جميعا. وتظهر الحقائق المذكورة ضرورة استيعاب المنحى العام للسياسة الامريكية السعودية المزدوجة التي بدأت ملامحها تزداد وضوحا منذ ان وصل باراك أوباما الى الرئاسة في مطلع العام. فسياسة اوباما تهدف لأمور عديدة منها ما يلي: اولا حسم المسألة الفلسطينية بتوقيع اتفاقية سلام بين قوات الاحتلال الصهيونية والحكومات العربية تمهد لـ ‘سلام دائم’ بينها وبين السلطة الفلسطينية. ثانيها: إنهاء الملف الايراني بعد ثلاثين عاما من التوتر والغموض والمناكفات السياسية والامنية. ثالثا: الاستمرار في ‘احتواء’ الخطر الذي تمثله التنظيمات المسلحة المتصلة بتنظيم ‘القاعدة’ بالاستمرار في اختراقها وتوجيه اهدافها بعيدا عن استهداف الولايات المتحدة ومصالحها، رابعا: اعادة صياغة التحالفات في المنطقة بما يخدم سياسات اوباما في مساعيه تلك. خامسا: تقوية المحور المحسوب على واشنطن في المنطقة بعموديه مصر والسعودية، لضمان تحقيق تلك الاهداف.
والواضح ان الاشارات التي بعث بها باراك اوباما قبيل انتخابه وفي الاسابيع الاولى بعد استلامه المنصب شوشت المشهد السياسي كثيرا، ودفعت للتساؤل حول حكمة الموقف الايراني الذي كان حذرا جدا ومترددا في مسايرة المشروع الامريكي الجديد. ومع ان ذلك المشروع لم يحسم بعد، ولم تتضح حقيقة النوايا الامريكية، الا ان المعطيات المتوفرة حتى الآن تشير الى حقائق اخرى مرتبطة بالمشروع الامريكي تختلف عن الفهم السائد لها. وليس مستبعدا ان تكشف الوقائع ان الرئيس الامريكي الحالي لا يختلف عن سلفه في ما يتعلق بالموقف من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما يرتبط بالمسألة الديمقراطية وحقوق الانسان في المنطقة، وما يتصل بالملف الايراني النووي والسياسي، والموقف من المجموعات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي. ولن يكون غريبا اذا اتضح ان القوى السلطوية المحسوبة على الغرب خصوصا الولايات المتحدة سوف تكون أشد إصرارا على مواجهة القوى التحررية والديمقراطية، خصوصا في ضوء ‘الصحوة’ المفاجئة للدبلوماسية السعودية التي ظهرت في الشهور الاخيرة.
في البداية تجدر الاشارة الى بعض الحقائق التي تشكل خلفية المشهد السياسي الحالي: اولا ان تنظيم ‘القاعدة’ تشكل في الثمانينات، في ذروة الاحتلال السوفياتي لافغانستان بتعاون امريكي ـ سعودي ـ باكستاني. هذا التنظيم شعر القائمون عليه لاحقا بحقهم في الاستفادة من استحقاقات ما اعتبروه ‘انتصارا’ حاسما ضد القوات السوفياتية، ومن تلك الاستحقاقات استهداف امريكا كقوة كبرى تمارس سياسات قمع متواصلة ضد الشعوب العربية والاسلامية وتدعم الاستبداد ونهب الثروات. ثانيا: ان ذلك التنظيم تعرض لاحقا لاختراقات تنظيمية وسياسية وفكرية وضعته على سكة مختلفة تماما، ودفعته للتورط في خلافات مذهبية داخلية بعد ان كان تنظيما عقائديا يستهدف الجهات الخارجية التي يعتبرها مسؤولة عن تخلف الأمة واستضعافها. وكان العراق، وما يزال، الارضية التي انطلقت منها دعوات التكفير والقتل على الهوية، وتخفيف الصراع مع الاعداء الحقيقيين لأمة المسلمين.
ولا يخفى دور المؤسسات الفقهية السعودية في التأطير لذلك النهج العقيدي والفقهي، التي قزمت ‘القاعدة’. ويمكن اعتبار ذلك من أكبر الانجازات التي حققتها الاستخبارات الامريكية والسعودية اللتان نجحتا في إبعاد خطر ‘القاعدة’ على مصالح كل منهما. ثالثاً: ان الصمود الايراني امام التعنت الامريكي والتهديدات الاسرائيلية المتواصلة ساهم في تعميق أجواء الثقة والتحدي لدى المجموعات المقاومة، فأصبحت المصالح الامريكية التي تحميها المؤسسة الرسمية العربية خصوصا النظامين المصري والسعودي تواجه تحديات غير قليلة. رابعاً: ان الضغوط الغربية المتواصلة ضد ايران على مدى الاعوام الستة الاخيرة لم تحقق نتائج تذكر، بل اصبح على الغربيين الدفاع عن انفسهم سياسيا واخلاقيا وقيميا عندما يمارسون سياسات انتقائية في استهداف من يعارض سياساتهم وغض النظر عن حلفائهم مهما كان انحراف سياساتهم وانتهاكاتهم لحقوق الانسان. خامساً: ان ‘اسرائيل’ اصبحت هما ثقيلا على كاهل القوى الغربية، خصوصا مع صعود نجم الاتجاهات الصهيونية المتطرفة في الاراضي المحتلة وما يمثله ذلك من تحد سافر ليس للمسلمين فحسب، بل لكافة القوى الدولية المناضلة من اجل العدالة وضد الهيمنة والاستغلال.
المعلومات المتوفرة تشير الى ان تغيرا جوهريا طرأ على ذهنية بعض رموز النظام السعودي، مفاده ان السعودية امام خيارين: اما اثبات الذات والموقف من خلال مبادرات واسعة النطاق او مواجهة احتمال التلاشي والذوبان، خصوصا مع تعمق نقمة الاقاليم المكونة للكيان السعودي ضد التسلط السياسي والمذهبي الذي يمارسه التحالف السعودي الوهابي ضدها. فالرئيس اوباما تخلى عن ترويج الديمقراطية وبدأ اتصالات من نوع آخر لتمتين علاقاته مع السعودية ومصر، وفي مقابل ذلك اصبح على هذين النظامين ان يتصدرا مشروع التطبيع مع الصهاينة ويتصديا للقوى المقاومة في لبنان وفلسطين. والتصدي السعودي للتوجهات الثورية والتقدمية ليس جديدا. فقد واجهت ‘القومية الثورية’ التي طرحها جمال عبد الناصر بشعار ‘الاسلام المحافظ’، ثم واجهت ‘الاسلام الثوري’ الذي تبنته ايران بـ ‘العروبة المحافظة’، وأثارت المذهبية الدموية في العراق لإبعاد التنظيمات المسلحة عن اراضيها واشغالها بحرب أهلية لا تضرها مباشرة ولكنها تقلل الضغط على المحتل الامريكي. وبعد حرب تموز (يوليو) التي شنها العدو الصهيوني ضد حزب الله، حركت مجموعة ‘فتح الاسلام’ في مخيمي ‘عين الحلوة’ و’نهر البارد’. وخلال العدوان الصهيوني ضد غزة، وقفت السعودية ومصر، ضد المقاومة الفلسطينية، على أمل ان يؤدي ذلك العدوان الى القضاء على ‘حماس’ والمتعاطفين معها. فالرياض ترى يدا إيرانية وراء اي موقف معارض للهيمنة الامريكية ورافض للتطبيع مع الصهاينة. وتعتبر ذلك الرفض افشالا لمبادرة الملك السعودي التي تبنتها في 2002 قمة بيروت العربية واطلقت عليها ‘المبادرة العربية’. وبعد صمود ‘حماس’ بوجه العدوان الاسرائيلي في مطلع العام، تحركت مجموعة ‘جند الله’ معلنة ‘إمارة اسلامية’ في اقليم غزة، الامر الذي رفضته ‘حماس’. وكان من نتيجة ذلك حدوث مواجهات دموية حسمت لصالح حماس. العراق ساحة اخرى شهدت تدفق الاموال السعودية على نطاق واسع، وشهدت كذلك محاولات متواصلة لابقاء البلد ممزقا وفق خطوط الانتماء المذهبي والعرقي. ولذلك توترت العلاقات بين العراقيين (بكافة انتماءاتهم السياسية) مع السعودية ويستبعد عودة تلك العلاقات الى حالة من الهدوء والاستقرار في المستقبل المنظور.
ومدت السعودية نفوذها الى اليمن لمواجهة المبادرات العربية الاخرى التي سعت للتوسط بين الحكومة والحوثيين. وكانت قطر قد قامت بوساطة ناجحة كادت تعطي ثمارا لولا التدخل السعودي في الاسابيع الاخيرة وتشجيع الحكومة اليمنية على حسم الموقف عسكريا. هذا التطور ادى الى زيادة الوضع تعقيدا، ومن شأنه ان يكرس الاحتقان والتوتر. وقد وفرت السعودية كافة التسهيلات للقوات اليمنية للتصدي للحوثيين. فبإلاضافة للدعم المالي الذي بلغ 400 مليون دولار، سمحت السعودية للقوات اليمنية بضرب الحوثيين من وراء الحدود السعودية. وذكر بعض المصادر ان السعودية تدعم بقوة المجموعات المسلحة المتطرفة ومن بينهم ‘حركة الشباب المجاهدين’ في الصومال التي تواجه الرئيس شيخ شريف.
وثمة وقائع أخرى تؤكد الطموح السعودي في تصدر العمل الاقليمي على نطاق واسع. ومن ذلك: التدخل السعودي السافر في الانتخابات اللبنانية الاخيرة لترجيح كفة حلفائها اللبنانيين. ووفقا لما نشر من معلومات فقد ضخت السعودية 800 مليون دولار لضمان فوز مجموعة 14 آذار، التي يتزعمها سعد الحريري. يضاف الى ذلك التدخل السعودي في الاحتقان السياسي الايراني الذي حدث بعد اعلان فوز احمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية.
وأخيرا جاء اعلان السعودية الاسبوع الماضي على لسان وزير المياه والكهرباء، عبد الله بن عبد الرحمن الحصين، بان المملكة تتطلع لإنشاء اول محطة للطاقة النووية. وكانت فرنسا قد اكدت على لسان وزيرة الاقتصاد، كريستين لاجارد، بان السعودية وفرنسا على وشك ابرام اتفاق تعاون في مجال الطاقة النووية المدنية. وليس صعبا الربط بين هذا التوجه الذي تتزعمه السعودية خليجيا، والملف النووي الايراني الذي تستهدفه امريكا و’اسرائيل’. وهكذا يبدو المشهد السياسي السعودي متحركا على غير المعهود، لمواجهة تيار المقاومة للغرب الذي تتزعمه ايران. انه خيار استراتيجي خطير يهدف لمنع مقاومة الهيمنة الغربية على المنطقة ولكنه غير مضمون النتائج، ومن شأنه ان ينعكس سلبا على العلاقات البينية بين الدول العربية والاسلامية، بدلا من حسم الموقف لصالح هذا الطرف او ذاك. انه صراع بين مشروعين متناقضين، احدهما يتبنى التحرير والاستقلال والآخر يستسلم للواقع ولا يعتقد بجدوى مناكفة الغرب او رفض الاحتلال الاسرائيلي. هذا الصراع سوف يحدد اتجاه الأمة بين الحرية والاستعباد، وبشكل أدق: بين ان تكون او لا تكون.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي