صفحات العالم

كونفوشيوس بعد ماو؟

محمد الحدّاد
فيما يتخبط الشرق الأوسط في المشاكل نفسها التي يحاول حلّها منذ أكثر من قرن، وفيما تراوح الممارسات الاجتماعية مكانها فلا تتقدم بل تتأخر، يلوح العالم الصيني يوماً بعد يوم في مظهر العالم المتطور نوعياً، عالم لم يعد مجرد حدث سياسي أو اجتماعي لكنه أصبح أيضاً معطى ثقافياً يستهوي الغربيين أنفسهم ويجعلهم يتحدثون عن نمط صيني قد يصبح بديلا عن الحداثة الغربية.
قبل بضعة أشهر نشر متخصص في الحضارة الصينية اسمه دانييل بيل (أستاذ كندي يدرّس حالياً في إحدى جامعات بكين) مقالا في صحيفة «لوموند» اختار له عنواناً مستفزاً: «كونفوشيوس بعد ماو؟»، وهرع المثقفون الفرنسيون يردون عليه بمختلف الحجج. ومعلوم أن ماو تسي تونغ (زعيم الثورة الشيوعية الصينية) كان قد تمتع بجاذبية خاصة لدى مثقفي فرنسا في الستينات والسبعينات، ناهيك أن بعض المشهورين منهم كانوا «ماويين» أيام الشباب والجامعة. يلخص بيل في هذا المقال اتجاهات أبحاثه وأعماله المنشورة سابقاً في شكل مختزل ومباشر وجريء فيزعم أن الديموقراطية على النمط الغربي تتجه نحو أزمة خانقة وأن هناك نمطاً آخر سيتطور ليكون بديلا عنها، وهو النمط الذي يدعوه بالكونفوشيوسي (نسبة إلى مؤسس الديانة الصينية القديمة).
يحدد بيل نقطة ضعف الديموقراطية على النمط الغربي في اعتمادها على التصويت ويعتبر أن التصويت لا يضمن وصول الأفراد الجيدين إلى مواقع القرار، وإذا ما أتيح لأناس أكفاء أن ينجحوا في التصويت فلن يكونوا قادرين على تنفيذ برامجهم وهم خاضعون لسيف التصويت المسلط عليهم ووتيرة الانتخابات التي يمكن أن تقرر في أي لحظة، فلا يمكن أن يمارسوا سياسات طويلة الأمد. لذلك تشهد المجتمعات الغربية أزمات عديدة وتخيب آمال شعوبها ويتعاظم التوجس فيها من الطبقة السياسية وينتهي المصوتون الأحرار إلى التخلي عن المشاركة في الشأن العام ومنها عملية التصويت الحر ذاتها.
ويقول بيل إن إعادة تأهيل التراث الكونفوشيوسي وبروز نخبة صينية تعمل منذ عقدين على الاستفادة من هذا التراث استفادة نقدية سيؤدي إلى بروز نموذج سياسي جديد مستوحى من فكرة كونفوشيوسية قديمة تقوم على مبدأ «مناظرات الكفاءة».
وقد استمر هذا التقليد في الصين القديمة على مدى قرون إلى أن ألغي بحلول العهد الشيوعي، وكان يتمثل في تنظيم مناظرات دورية (مثل مواعيد التصويت في المجتمعات الأوروبية) لانتقاء أفضل الكفاءات في الإمبراطورية وتكليف الناجحين في هذه المناظرات بإدارة الشأن العام باسم الإمبراطور. ويقول بيل إن ازدهار الصين في العقدين الأخيرين الذي جاء متوازيا مع إعادة الاعتبار إلى التراث الكونفوشيوسي قد دفع إلى العودة إلى هذا التقليد في شكل حديث كي تتمكن الصين من توفير الكفاءات الضرورية في تناسب مع الوتيرة العالية لنموها.
وحسب ما يفهم من هذا التحليل فإن الفارق بين النظام الغربي والنظام الصيني يتمثل في أن الأول يوفر الحرية ويقلص الكفاءة، لكن تقلص الكفاءة سيؤدي إلى تراجع الحرية فيه، بينما الثاني يوفر الكفاءة ولا يهتم بالحرية، بيد أن تنامي الكفاءة سيؤدي إلى تنامي الحرية فيه (ولم يتحدث بيل عن النمط الشرقي الذي نعرفه والذي يفتقد للكفاءة والحرية في آن واحد ولا يبدو قادراً على تطوير هذا ولا ذاك!).
ومن الدراسات المتميزة الأخرى حول الصين أشير إلى مؤلف ضخم عنوانه «الاختلاف الكبيرـ الصين وأوربا وإنشاء الاقتصاد العالمي»، من تأليف كينيث بومرنز، أستاذ الدراسات الصينية في جامعة كاليفورنيا. يستعيد الكتاب السؤال التقليدي: لماذا ظهرت الثورة الصناعية في أوروبا تحديداً؟ سؤال طرح على مدى القرن الماضي، إذ كانت التقنية في أوروبا أثناء العصر الوسيط أقل تقدماً من التقنية الصينية (ومن التقنية في العالم الإسلامي). فلم تكن أوروبا مؤهلة أكثر من الصين أو العالم الإسلامي لتحتضن هذه الثورة (ومن ثمة الحداثة). تمثل الجواب التقليدي في اعتبار «العقلية» الصينية عقلية محافظة وقفت عائقاً دون الانتقال إلى نمط حضاري جديد غير الذي ألفه الصينيون على مدى عشرات القرون.
لكن الوضع الحالي للصين، يقول بومرنز، جاء ليؤكد تهافت هذا التفسير، فالعقلية الصينية تقبلت تحولين مذهلين حدثا في سرعة فائقة: تحول الصين إلى نظام شيوعي راديكالي ثم تحولها إلى نظام صناعي رأسمالي فائق الحيوية. يعود المؤلف إلى بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر فيثبت من خلال دراسة إحصائية دقيقة أن الوضع لم يكن مهيأ في أوروبا أكثر من الصين لقيام الثورة الصناعية لكن سبب قيامها بتلك دون هذه ليس مرتبطاً بالعقلية لكنه كان مرتبطاً بوفرة موارد الطاقة لدى الأوروبيين بسبب السيطرة على القارة الأمريكية مقابل شح هذه الموارد في الصين. بعبارة أخرى: العامل الأساسي الذي يفسر «التفوق» الأوروبي كان مرتبطاً بمعطى جغرافي لا يتحكم فيه البشر، فهو من قبيل الصدفة أو الحظ، ذاك ما جعل أوروبا تتفوق على الصين أثناء الثورة الصناعية، ومع تطورات التكنولوجيا العالمية فتح المجال للصين كي تتفوق بدورها عندما أتيحت لها الفرصة المناسبة.
المهم في هاتين الأطروحتين هو ما ذكرته في مطلع المقال: ثمة اليوم تفكير في «نمط حداثي صيني» لا يستند إلى التهويمات ولا يعتمد الدعوات الساذجة للتحصن بالهوية ولا حنين الأصول والتراث، بل يعيد كتابة الماضي بما ينفع الحاضر، ولا يتولى التبشير بهذا النمط المثقفون الصينيون وحسب بل يبشر به بخاصة باحثون من الجامعات ومراكز البحث الغربية، وقد تنامي الاهتمام بالصين في هذه المؤسسات خلال العقدين الأخيرين، مقابل تراجع الاهتمام الجدي بالعالم العربي والإسلامي وتراجع كفاءات الدارسين الغربيين لشؤون منطقتنا، ما سيمثل عاملا إضافياً لضعف الدراسات الحضارية المقارنة لمجتمعاتنا. أما قلة اهتمام المؤسسات الجامعية والبحثية العربية بالمتابعة الدقيقة للتجربة الصينية فلا تحتاج إلى مزيد مقال.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى