جيوبوليتيكا عربية
فواز طرابلسي
شهدت الأيام القليلة الماضية حركة زيارات من وإلى المنطقة، ومناسبات واستحقاقات، بدأت ترسم عناصر لسياسات لا تدخل في باب «الفوضى الخلاّقة» ولا «الشرق الأوسط الكبير»، بل هي تؤشر إلى ألوان من الاستتباع الذاتي تحتاج إلى مراقبة مجهرية لتعيين طبيعة ملعب يختلف بعض الشيء عن ساحات القتال والنزاع المألوفة. هنا يلعب اللاعبون لعبة «الأوراق» مع الولايات المتحدة، ما يثير السؤال عمّن يلعب بمن؟ وهنا يتجلّى إلى أي مدى تمسك الولايات المتحدة بمفاتيح شرعية الأنظمة العربية. وشريعة اللعب لدى الأنظمة المعنية واضحة: قدّم تنازلاتك لا لشعبك ولا لجارك وإنما للاعب الأميركي.
كانت زيارات دمشق واستقبالاتها خلال الأيام الأخيرة مثالاً بارزاً على ممارسة للعلاقات الدولية تجري تحت عنوان «الاعتراف بالدور الإقليمي». نجحت دمشق في أن تقلب المعادلة الأميركية فيما يخص العلاقة مع إيران. فبدلاً من الرضوخ للشرط الأميركي بقطع العلاقة السورية ـ الإيرانية، مقدمة لأي تنازلات تقدمها واشنطن بشأن العقوبات أو الوساطة لمفاوضات الجولان المحتل، صارت المعادلة: تستطيع سوريا أن تكون وسيطاً مميزاً يذلل الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. جرى الاختبار الأول خلال زيارة الرئيس الأسد الأخيرة إلى طهران. واكبتها أنباء عن وساطة سورية بين فرنسا وإيران لإطلاق سراح الأسيرة الفرنسية. وقد زاد من مصداقية تلك الأنباء صدور شكر فرنسي رسمي لدمشق على دور، لم تعترف دمشق بعد به، يتعلق بتقديم السجينة الفرنسية إلى المحاكمة في إيران.
قد لا يجد المرء أي أمر يثير الاعتراض في هذه الدبلوماسية الهادئة. اللهم إلا التساؤل: هل ترتضي طهران وسيطاً بينها وبين الولايات المتحدة، في وقت يعج فيه ملف العلاقات الإيرانية ـ الأميركية بملفات، تبدأ بالمحور الباكستاني ـ الأفغاني ولا تنتهي بالملف النووي، وهي ملفات لا تحتمل تدخل وسطاء؟ ولا القبول بانتفاع الوسيط على حساب من يتوسط بينهم. لكن ذلك هو قصر النظر الدائم لدى الوسطاء.
«الاعتراف بالدور الإقليمي لسوريا» في العراق. خلال الشهر الماضي، زار دمشق وفدان عسكريان أميركيان. وصدر في أعقاب الزيارتين قرار أميركي بتخفيف العقوبات على سوريا والسماح لها باستيراد عتاد عسكري أميركي. وكأنه من باب الصدفة، صدر لوزير الخارجية السوري تصريح، لم يُعرف له نظير منذ زمن، يدين أعمال العنف في بغداد، وذلك في وقت تصاعدت فيه تلك الأعمال إلى درجة دموية مأساوية جاءت تؤكّد أن الاتفاق الأمني العراقي ـ الأميركي الذي ينظم الانسحاب المشروط للقوات الأميركية من العراق قد لا يكفي دون الاعتراف بـ«دور إقليمي» ما لدول الجوار في تسهيل ذلك الانسحاب. وراجت أحاديث عن إجراءات جديدة لضبط الحدود السورية ـ العراقية وتسليم عناصر من تنظيم «القاعدة» والبعث الصدامي إلى السلطات في البلد الشقيق. ويبدو أن الوساطة الأميركية مع دمشق بشأن العراق أغضبت حكومة بغداد، فسارع رئيس الوزراء العراقي إلى دمشق. ولم يكتفِ بالتذكير بأن «الأقربين أولى بالمعروف»، بل قدّم إغراءات، منها مشروع أنبوب لمرور الغاز العراقي عبر سوريا إلى تركيا والمتوسط، دعماً لمطالبته التفاوض المباشر بين السلطات العراقية والسورية دون المرور بالوسيط الأميركي!
قد لا تشذ زيارة الرئيس مبارك الأخيرة إلى واشنطن عن هذا السياق. فهي تدور أيضاً حول استخارة واشنطن بشأن «دور مصر الإقليمي» في وقت يبدو فيه ذاك الدور منحسراً إلى أبعد حد. وقد تدحرج «دور مصر الإقليمي» من كون «أم الدنيا» واسطة العقد في كل ما يتعلق بشؤون المنطقة، إلى اكتفائها بدور الوسيط المتنازع على دوره بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية، وثم إلى حمامة سلام بين حركة فتح وحركة حماس، حتى لا نتحدث عن مهمة لم يكتب لها النجاح بعد لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي شاليت. ولعل الذين شاهدوا صورة الرئيس مبارك يصيخ السمع للرئيس أوباما خلال اللقاء الرسمي بينهما، قد تساءلوا: ما عسى أوباما يضيف لمبارك من شروط لإجازة التوريث بعد أن أعلن الرئيس المصري أنه لا ينوي الترشح مجدداً لمنصب الرئاسة؟ هل من تنازلات أكبر من أن تتزعم مصر حملة تطبيع عربية رسمية في مقابل قرار لنتنياهو بتجميد محدود وجزئي ومؤقت للاستيطان؟
وطالما الحديث يدور عن تزايد إمساك الولايات المتحدة بشرعية الأنظمة العربية، وشروط بقاء حكّامها، لا بد من المرور على أكلاف توريث العقيد القذافي الذي يطفئ خلال أيام أربعين شمعة من وجوده في الحكم في ليبيا. سبعة من الأبناء مرشحون للخلافة مع أرجحية لاثنين: سيف الإسلام الذي يعبّر عن هوى خاص بحقوق الإنسان ومعتصم صاحب الدور المهم في الأمن والمخابرات. وتوزيع الأدوار بين الشقيقين يأتي بمجرد الصدفة طبعاً! ليبيا عاقلة الآن. انضمت إلى حرب بوش ضد الإرهاب، تخلّت لا فقط عن برنامجها النووي، بل دلّت أيضاً على مزوّديها بالمواد والتقنيات. والعقيد متفرّغ منذ فترة للشــغل على مســتوى الرمزيات. تبدأ باشتداد تمايز الأزياء الذي يرتديها (ناهــيك عن الخيمة الشهيرة) ولا تنتهي مع إعادة المقرحي، الذي يرتد على اعتراف بجريمة لوكربي بإعلانه عن كتابة مذكــراته ينفي فيها دوره في تفجير الطائرة المدنية الذي أودى بحياة 260 مدنــياً، مروراً بنجاح العقيد في انتزاع اعتذار رسمي من سويسرا على اعتقــال ابنه هانيبعل لخرقه القوانين. ولا ننسى واحدة من تلك الصفقات التي تستحق أن توضع تحت عنوان التصفية الناجــحة لــتركة الماضي الاستعماري: نعني إلزام الحكومة الإيطالية بالاعتذار عن ارتكاباتها خلال فترة الاحتلال الفاشي لليبيا ودفعها تعويضات مالية مهمة عن الأضرار التي خلّفها ذاك الاحتلال. وكلها صــفقات تــمت لقاء امتيازات نفطية وتجارية أُعطيت لبريطانيا وسويــسرا وإيطاليا. وفي انتظار احتفالات «الفاتح» الأربعينية، يبقى التذكير بأن العقيد القذافي الذي أعلن يأسه من «العرب» عموماً، ينعم الآن بلقب منحه لنفسه: ملك ملوك أفريقيا!
وفي لبنان أزمة توريث أيضاً وإن تكن على مستوى رئاسة الحكومة لا الدولة. لا يملك لبنان أوراقاً كثيرة يلعب بها في الحقل الإقليمي والدولي. بل يمكن القول إنه هو نفسه يتحوّل، بحكمة «الوطنيين» و«الاستقلاليين» من قادة معسكري الآذاريين، إلى ورقة في مهب الرياح الإقليمية والدولية. وكائناً من كان المعرقل لتشكيل الحكومة العتيدة، هذه الـ«س» أو تلك الـ«س»، فالحقيقة أن ما من شقيقة من الشقيقتين مستعدة لأن تقدم أي تنازل للبنان، وشعبه، ليمشّي أمور تشكيل حكومته بالتي هي أحسن. فإما أن تقدم شقيقة التنازل للشقيقة الأخرى لقاء ثمن تدفعه الواحدة منها للأخرى وإما أن تقدمه هذه أو تلك، أو كلتاهما معاً، لطرف خارجي هو في هذه الحالة الولايات المتحدة الأميركية.
وهذه أيضاً ألوان من الحيل المستخدمة في لعبة «الأوراق» وفي سياسات «الاعتراف بالأدوار الإقليمية» للدول المعنية!
وحزورة رمضان هي: مَن تظنون الرابح في هذه الألعاب؟