انتظروا … ماذا؟!
سليمان تقي الدين
لم نخرج بعد من سياسة الانتظار. انتظروا الحرب الأميركية على إيران. انتظروا التغيير في سوريا. انتظروا الحرب الإسرائيلية. انتظروا المحكمة! البلد كله ينتظر وكذلك تأليف الحكومة. ثمة من يقول إن القمة السورية السعودية هي التي ستفك عقدة التأليف. ثمة من يقول إن التأليف مؤجل عمداً حتى يصدر القرار الاتهامي عن المحكمة الدولية ليبنى على الشيء مقتضاه. قد يؤدي القرار الاتهامي إلى إحراج «المعارضة» وخاصة «حزب الله» وكذلك سوريا. قد يرفض الرئيس المكلف تشكيل الحكومة بمشاركة أطراف معيّنين أو أشخاص. قد يذهب إلى تأليف حكومة الأكثرية. قد يعتذر لأنه لن يزور سوريا. قد يطلب ثمناً كبيراً لذلك.
لكن ثمة من يذهب أبعد من ذلك. جهة تقول إن الحرب الإسرائيلية واقعة لا محالة ولا ندري وفق أية تقديرات أو معلومات. جهة تقول إن الاغتيال السياسي سيعود من أجل خلط الأوراق ولا ندري أهي تقديرات أم معطيات. جهة تقول إن القرار الاتهامي للمحكمة سيطلق شرارة الفتنة!
هكذا صار تأليف الحكومة مسألة خارج دائرة قرار الفرقاء السياسيين، هم ينتظرون معطيات ما زالت في «عالم الغيب» ويرهنون الأمن والاستقرار والحياة اليومية للناس لذاك المجهول الذي سيهبط على البلد ويغيّر في توازناته السياسية. أولويات الفرقاء السياسيين ليست معالجة المديونية العامة ولا تأمين الخدمات المركزية الأساسية التي تحرّك عجلة الاقتصاد، ولا سيما الكهرباء. ولا طبعاً سائر الهموم الاجتماعية.
على اللبنانيين أن ينتظروا «مخلصاً بعينه» أو «حدثاً مخلصاً».. كأن كل التصورات والرغبات والتوقعات يمكن لها فعلاً أن تضعنا على المسار الصحيح للخروج من الأزمة الوطنية الكيانية. أزمة كيانية فعلاً لأن عنوانها الأساس هو الفوضى لا حكومة الأكثرية ولا حكومة المشاركة ولا من يحزنون. لا نحتاج إلى مزيد من الأدلة والبراهين على عجز هذه الطبقة السياسية وعلى أزمة نظامها السياسي. هي من تستدعي الوصاية وتبحث عن الحمايات. هي من تضع «طوائفها» في المواقع الحرجة والمخاطر والتحديات. هي من ترهن مستقبل شعب ووطن لمشاريع وسياسات فوق ما يحتمل ويطيق. هي من تذهب لحروب في الداخل والخارج لمصالح أنانية وحسابات سلطوية وترفض الحرب الدفاعية الوحيدة التي تستحق التضحية مع العدو الإسرائيلي. هذا هو المنطق نفسه الذي قاد إلى الحرب الأهلية بديلاً من شراكة الدولة اللبنانية في الحروب العربية مع إسرائيل. قطعاً لا نريد الحرب ويجب استنفاد كل وسائل استبعادها. لكننا لا نريد الحروب البديلة، وأخطرها أن ننزلق إلى الفوضى في معرض الخلاف السياسي تحت أي عنوان.
بين اللبنانيين تاريخ طويل من النزاعات الدموية. حتى الجغرافيا الطائفية لهذا البلد هي حصيلة نزاعات وحروب أهلية، لكن الأكيد أن أحداً من الجماعات لم يلغ أحداً أو يبتلعه. هناك زجلية معروفة منذ القرن الثامن عشر عن صراع الجبلين، جبل لبنان وجبل عامل. ولبنان كله بهذا المعنى جبال «لا تهزها الريح» على ما صارت توصف زعاماته. ولعل أعجب ما نسمع هذه الأيام هو «حكمة الشباب وجهل الشيوخ». كأن تاريخنا وتجاربنا لا تراكم معرفة لا بالتاريخ ولا بالتجارب. «انتخبوا رئيساً بالنصف زائداً واحداً»… «شكّلوا حكومة الأكثرية»… «اعزلوا هذه الفئة أو لا تستجيبوا لمطالبها».. إلخ.. ونحن نعلم أن هذه وصفة مكتملة لحرب أهلية. ونكاد نفكّر أن البعض يريدها ولو محدودة أو بين طرفين فقط لاستكمال توليد صيغة الكانتونات والأقاليم الفيدرالية. لقد صار مفهوماً للقاصي والداني أن هذا البلد يحتاج إلى صيغة توافقية ولا يحتمل كل مشاريع الهيمنة من أي جهة أتت. جادلوا في أي صيغة للتوافق لكن ليس في أي مشروع للهيمنة. منذ تشكل هذا الكيان نقلنا سياساتنا الضيعوية الريفية إلى قلب دولته. عصبيات وثأر وانتقام وغلبة.
ما زال تراثنا الأدبي بمختلف أشكاله وفنونه يعظنا بأن نخرج من القبيلة إلى الدولة. الآن ندرك سر هذا الدوران على الذات منذ قرن من الزمن. لدينا مدن تجارية على تقاطع المواصلات وليس لدينا المدنية. نحن نستدعي الريف الفقير المحروم ليحل لنا المشكلات في المدن المعولمة الكوسموبوليتية. نحن جعلنا من بيروت الأغنى ثقافة أحياء متقاطعة متنافرة لمرابطة فصائل الفقراء من عكار والمنية والضنية والهرمل وبعلبك وجرود العاقورة وإقليم الخروب وراشيا وحاصبيا، كأننا نريد إنقاذ مشروعنا الحضاري البائس بأدوات الفقر والبؤس والعنف والمستضعفين الأميين الذين يحشون أمعاء أطفالهم بالثقافات الغيبية والظلامية.
وما زلنا نقول للبنانيين انتظروا. على الشاشات نخب سياسية فارغة، تدافع عن لبنان العظيم بثقافة القرون الوسطى. مرجعيات روحية تحض على خيارات تصادمية، لا نعرف كيف «تنقذ الروح والروحانية». سياسة «ثعلبة» لدى القادة و«ثقافة دجاج» لدى الجمهور. هذا اللبنان متى يخرج من رصيف الانتظار؟!
أيها اللبنانيون انتظروا… لكن ماذا؟!
السفير