تغيير طبيعة الاحتلال
ميشيل كيلو
منذ نهاية حرب عام 1967 و”إسرائيل” تخلق شروط إدامة الاحتلال، عبر التمسك المباشر به، والعمل على تغيير طبيعته هناك. ولعل الشرط الأكثر أهمية بين هذه الشروط كان إخراج مصر من ما عرف بالصراع العربي “الإسرائيلي”، برد أراضي سيناء إليها، مع إبقائها تحت رحمة آلتها العسكرية. ومن المعروف أن حاييم وايزمان، قائد سلاح الجو “الإسرائيلي” خلال حرب يونيو/ حزيران، أقنع قيادته السياسية بالانسحاب من سيناء بقوله: “إن سيناء ستبقى تحت رحمتنا وفي متناول أيدينا، وسيكفي أن نرفع الهاتف ونخاطب الرئيس السادات قائلين: نحن قادمون، وستسقط سيناء قبل أن نضع سماعة الهاتف من أيدينا”.
استعادت مصر أراضيها المحتلة كاملة، بينما عقد الأردن صفقة إيجار طويلة الأمد أبقت الوجود “الإسرائيلي” في الأراضي المستعادة لفترة 99 عاما، في حين مارس الاحتلال سياسات تمسك بالأراضي العربية المحتلة، مع العمل على تغيير طبيعة الاحتلال في كل من فلسطين وسوريا ولبنان، بواسطة الامتناع عن تطبيق اتفاقية أوسلو في فلسطين، والامتناع عن عقد تسوية سلمية مع سوريا، والتصرف، في الوقت نفسه، على أساس أن الجولان أراض “إسرائيلية” وليست سورية، وتالياً فإنه لن يتم تسليمها لمن ليسوا أصحابها، وستبقى في أيدي ملاكها الأصليين، “الإسرائيليين”، خاصة وأنها تشكل عمقاً استراتيجياً مهما لأمنهم، وتضم خزان الماء الذي يمدهم بالحياة. بدورها، بقيت أراضي لبنان المحتلة تحت الاحتلال بسبب خلافات على الحدود اللبنانية السورية، ووجود قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، والقرار ،1701 الذي أقام منطقة عازلة حظر دخول حزب الله إليها، وفرض وقفاً لإطلاق النار عليها.
لا داعي للإسهاب في شرح السياسات الصهيونية في فلسطين، والوقوف طويلاً عند هدفها الرئيس: تغيير طبيعة الاحتلال والإبقاء عليه وإدامته، والاستيلاء على أراضي العرب، أو على أكبر قسم منها. تعترف الإعلانات الصهيونية صراحة أنها تعتبر الأرض الفلسطينية منطقة متنازعا عليها، سيملكها في نهاية المطاف “الإسرائيليون”، إن هم أحسنوا الاستيلاء عليها بالاستيطان، الذي التهم بالفعل مساحات متزايدة بلا انقطاع من أرضها، وهو مستمر في التوسع والانتشار رغم الضغوط أو الرجاءات الأمريكية وما يقال حول ضرورة وقفه كشرط للسلام.
ثمة ملاحظتان هنا تفرضان نفسيهما:
1- إن الاستيطان ليس مسألة من مسائل التسوية السلمية، ما دام يجسد تصميم “إسرائيل” على انتزاع الأرض الفلسطينية المحتلة وتهويدها. صحيح أن هذا التصميم اتسم بالمرحلية من حيث التنفيذ، إلا أنه غير مرحلي إطلاقاً من حيث معناه وأهميته بالنسبة للصهاينة، لكونه يمثل صميم الأيديولوجية الصهيونية ويعد معيار نجاحها أو فشلها، معيار نجاح وفشل المشروع الصهيوني بكامله.
2- إن الاستيطان، بمعناه هذا، علاقة مع الذات وليس علاقة مع الآخر. إنه علاقة “إسرائيل” بذاتها وليس علاقتها مع الفلسطينيين، فلا يجوز لقيادتها مساومة أحد من الأغيار أو مفاوضته عليه، إلا إذا بدا أن الامتناع عن المساومة والمفاوضة يحمل أخطاراً تهدد وجود الدولة، عندئذ، لا بأس أن تقدم تنازلات جزئية ومؤقتة، على أن لا يتم التخلي تحت أي ظرف عن مشروع الاستيطان، لأنه جوهر المشروع الصهيوني.
ثمة تغيير لطبيعة الاحتلال في فلسطين هو في الواقع تغيير لطبيعة وهوية فلسطين نفسها، وهذا ما نجده أيضاً في الجولان، الذي تم ضمه رسمياً إلى “إسرائيل” نهاية عام ،1981 وأعلن على لسان كبار مسؤولي تل أبيب أنه صار جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وأنه لا يمكن من الضم فصاعداً التخلي أو التنازل عنه، كلياً أو جزئياً. إذا كان ما تنشره الصحف حول مستقبل الجولان صحيحا، وكان صحيحا أن الصهاينة لن يقبلوا بغير تأجيرهم قسماً كبيراً منه لمدة تسعة وتسعين عاما، ولن يعيدوا مناطقه المتحكمة بالمياه، ويعتزمون تحويل قرابة نصف مساحته إلى “حديقة سلام” مع ضمان حق “إسرائيل” غير المقيد في الدخول إليها، وحقها في إقامة مشاريع اقتصادية وسياحية فيها، فهذا يعني أن الصهاينة يفكرون هنا أيضا بتغيير طبيعة الاحتلال، لإدامته بوسائل وأشكال أخرى، قد تختلف عن شكله الحالي، لكنها لا تبطل مضمونه.
يبقى لبنان وأرضه المحتلة في تلال كفر شوبا ومزارع شبعا، حيث يسود الهدوء منذ ثلاثة أعوام ونيف، ويمتنع تطبيق القرار ،425 الذي نص على انسحاب الجيش “الإسرائيلي” من أراضي جنوب لبنان بما في ذلك هاتان المنطقتان، وطبق عام ،2000 بعد خروج هذا الجيش من القسم الأكبر من المناطق المحتلة، بسبب المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية. هنا، يمارس العدو، حسب ما يقال، عملية تغيير كبيرة في طبوغرافية الأرض، تمكنه من نهب أكبر قسم ممكن من تربتها ومياهها، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى بالنسبة إلى لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، والتي يرجح أن يتمسك بها قدر استطاعته.
عمل العدو على تغيير طبيعة الاحتلال في أراضي أربعة من خمسة أقطار عربية احتل أراضيها عام 1967. وغيّر بصورة رسمية وفعلية هوية بعضها فلسطين والجولان، كما غير علاقات بعضها الآخر بوطنه الأم الأردن ولبنان فارضاً بهذا الأسلوب الاستعماري “سلام أمر واقع” أثبتت الأيام أنه لا يقل ثباتا عن “السلام التعاقدي”، الذي توصل إليه مع مصر والأردن.
في غياب قوة تستطيع إجبار “إسرائيل” على وقف تغيير هوية وطبيعة الأرض العربية المحتلة، وطبيعة احتلالها لها، ما من أحد سيرغمها على التخلي عن سياساتها التوسعية، التي ثبت نفعها خلال السنوات الأربعين المنصرمة من عمر الاحتلال، ويقر العالم أكثر فأكثر بأنها خلقت أمراً واقعاً يجب أخذه بعين الاعتبار في أية تسوية مقبلة؟ في غياب القوة القادرة على رد الأرض العربية حربا، إن واصل العدو رفض إعادتها سلما، وفي ظل التناقضات والخلافات العربية العربية، والفلسطينية الفلسطينية، ستبقى سياسة تغيير طبيعة الاحتلال راجحة لدى العدو على أية سياسة أخرى، فهي تغير هوية الأرض العربية وتهودها، كما تغير طبيعة الاحتلال، وهي ستستمر وتعزز بمقدار ما يعلن العرب تمسكهم بالتسوية السلمية، واستعدادهم لتطبيع علاقاتهم مع تل أبيب. ذات مرة، قال إسحاق رابين: الأرض أضمن لأمن “إسرائيل” من السلام مع نظم عربية مهزوزة وضعيفة لا تضمن بقاءها في السلطة، ولا يعرف أحد إلى متى تستطيع الالتزام بما قطعته لنا من عهود، وما أبرمته معنا من اتفاقيات سلام.