صفحات ثقافية

بؤس الصحافة وتعملق الصحفيين

null
سعاد جروس
لا يمكن وصف الشعور الذي يحس به المرء عندما يقع عن طريق المصادفة على كتاب قيّم، لا يقدم له المعلومة وحسب، بل وينير لديه الكثير من الأفكار والآراء ويحرضه على التمحيص فيها. وأن نقول (مصادفة) نعني من دون معرفة مسبقة بالكاتب ومن دون تزكية من أحد سبق وقرأ الكتاب، فحصول مصادفة كهذه يكون لها في النفس وقع العثور على تحفة ثمينة.
لعله كان هذا هو شعوري لدى عثوري على كتاب (بؤس الصحافة ومجد الصحفيين) للباحث السعودي نعيمان عثمان في جناح المركز الثقافي العربي خلال معرض مكتبة الأسد الدولي للكتاب الأخير. وكانت مفاجأتي أكبر ان جميع من سألتهم عن الباحث أكدوا أنهم لم يقرأوا له من قبل، مع أن أسلوبه الأكاديمي الاحترافي يشير إلى وجود رصيد كبير سابق له في هذا المجال غير ما قاله عن نفسه من عمله مترجماً ومدرسا للترجمة، وهو الباب الذي ولج منه إلى الاهتمام بالإعلام، بعدما لاحظ التباين بين الأصل الانكليزي والترجمة العربية التي تظهر في الصحف العربية. ويرد على ذكر حادثة طريفة بأن صحفية روسية سألت الروائي ميلان كونديرا إذا كان غيّر أسلوبه بشكل تام في روايته الأخيرة، فرد كونديرا: “لا، بدّلت المترجم”!!
يقول الباحث، “ليست لغة الصحافة بما فيها من مقالات الآراء على درجة عالية من الصعوبة بحيث تقارن بالكتابات الأدبية الصرف، لكن لا ريب أن للعوامل الثقافية واللغوية أدواراً حاسمة قد يقوم المحررون باستغلالها في تلاعبهم المقصود. ففي بعض المقالات المترجمة تحذف مقاطع أو أجزاء يعتقد أنها غير ملائمة، فمقابلة مع روبرت فيسك إبان حرب تموز 2006 في لبنان يسقط منها أجزاء بعد أسابيع من إجرائها، منها الجزء الذي يقول فيه فيسك ما معناه إن “اللبنانيين أناس رفيعو الثقافة لا يشبهون العالم العربي”، وقد سقط هذا المقطع من الترجمة بعد تعرضه للنقد من كتاب غربيين لإظهاره التحيز ضد العرب لدى دفاعه عن اللبنانيين.
هذا النوع من الأبحاث الإعلامية النقدية تحتاجه المكتبة الإعلامية العربية، لما فيه من الرصد والتوثيق والتحليل المتابع لتطورات الإعلام العربي الراهن ما يجعله بحثاً حيوياً يضج بالأسئلة، فلا يغفل مؤسسة كبيرة ولا اسماً يثير الجدل إلا يتوقف عنده، مع ملاحظته غياب النقد عن الدراسات الإعلامية: “إذ إن الصحفيين أنفسهم يتجنبون الخوض بشكل معمق في تجارب بعضهم بعضاً، وما يتوافر في هذا المجال هو في أغلب الأحيان سباب ومزايدة لا أكثر”.
قد تختلف الآراء حيال الأحكام التي يطلقها الباحث في دراسته على بعض وسائل الإعلام العربية أو على الصحفيين البارزين، لكن الجهد المبذول في الرصد والمتابعة هو جهد يستحق التقدير، كونه يخضع لمعايير دقيقة في عرض وجهات النظر والتفنيد، فعلى سبيل المثال عندما يرد على نموذج فؤاد عجمي، يستعرض كل وجهات النظر حوله في الشرق والغرب فيتحدث عن تحوله من صوت قوي في العام 1973 “في دعم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم” إلى معجب بإسرائيل، لأنها تتمتع بأمر لا يمتلكه الفلسطينيون، وهو “القوة” وذلك بعدما جهزته دوائر المثقفين الاميركيين ليكون خصماً لإدوارد سعيد، حسب مقالة لليساري آدم شاتز وصف فيها عجمي بأنه “صنيعة النظام الاميركي”. أما اليمين التقليدي في أميركا فقد اعتبر عجمي متهوراً ومورطاً ومتورطاً. ويفند جاكوب هايلبرن تنبؤات عجمي ويقول “لو أن عجمي كان طبيباً أو محامياً لاتـُّهم بسوء أداء عمله ولسحبت منه إجازة المهنة”. أما العرب فأقل ما قالوه عن عجمي بأنه “واطي” بحسب تعبير جهاد الخازن وأن مقالاته “تنقـِّط سماً”. ويقول الباحث نعيمان عثمان بأن الشرق والغرب حدد موقفه من عجمي منذ سنوات قبل حرب العراق، لكنه ازداد صلابة واتساعاً عقب شن هذه الحرب، لذا يندر وجود مدافع عنه، ومن هؤلاء الصحفيين عبد الرحمن الراشد، الذي يرى فيه مثالا للمفكر الحر.
يغوص هذا الكتاب الذي يرصد ما يكتب في الصحافة الغربية والاميركية والعربية، في العديد من القضايا الحساسة المتعلقة بالتجمعات والتكتلات داخل المجال الصحفي العربي، والملكية والاستقلال والموضوعية، ويتجاوزها ليتناول بإسهاب الفرز الشائع لكن غير الدقيق بين صحافة “الخبر” وصحافة “الرأي” ويتقصى المقارنات التي تعقد عادة بين الصحافة العربية والغربية والتي تنتهي دونما تدقيق إلى إدانة الأولى. ومع أن هذه الموضوعات أشبعت تنظيراً
لكن هذا الكتاب يتميز بتطبيقات بحثه على أمثلة راهنة لا يزال الجدل حولها محتدماً وساخناً، ما أكسبه جرأة كبيرة لدى الخوض في التماهي المعقد للصحافة مع السلطتين السياسية والمالية، وتزايد التشابك في اللعبة الممجوجة واللئيمة بين الراعين والمروجين الذين يملكون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عدداً من وسائل الإعلام (المستقلة) وبين الصحافة التي يتوجب عليها أن تقف على مسافة كافية منهم في مجابهتهم حسب قواعد لعبة يعرفها الطرفان، وتتسع رقعة التشابك لتشمل مراكز التعليم وجهات التدريب الإعلامي، ويذكر الكاتب مثالاً على تلك المفارقة في أن أهم مركز إقليمي لدراسة الميديا يحمل اسم رئيس الاستخبارات العامة الأسبق في السعودية: “مركز كمال ادهم في الجامعة الاميركية في القاهرة”!! كما يتابع الباحث ظاهرة الصحفي العربي الذي يتجاوز دوره ويتبنى دور السياسي، بل يتعدى ذلك ليسبغ على السياسي شيئا من رأسماله الثقافي، ومن جانبه يقوم رجل السلطة ليس بالسيطرة على وسائل الإعلام فحسب، وإنما يعمل على امتلاك “الرأسمال الرمزي” فيعقد المؤتمرات عن الإعلام ويمنح الجوائز للنخبة من الصحفيين، ويعطي الباحث مثالا على ذلك التآزر والتداخل بين الصحافة والسياسة المشاركة الواسعة لنخبة من الإعلاميين في مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية.
من المتوقع أن يثير هذا الكتاب الكثير من الجدل كونه يسمي الأشياء بمسمياتها الصريحة، ويبلغ الكشف فيه حد الفضيحة، لا تخلو من مفارقة فاقعة حين يكون بؤس واقع الصحافة العربية سبباً في تعملق بعض الصحفيين وتربعهم على عروش الشهرة والمال.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى