هشيم أباريق البياتي
صبحي حديدي
بعد الكتيّب المبكّر ‘عبد الوهاب البياتي: دراسة في أباريق مهشمة’، الذي نشره الراحل الكبير الدكتور إحسان عباس سنة 1955، صدرت عشرات الأعمال النقدية، ومئات الدراسات والأطروحات الجامعية المتفرقة، التي تتناول تجربة الشاعر العراقي الرائد، الذي غادرنا يوم 3/8/1999 عن 73 عاماً. وكانت هذه الأعمال تتفق، في كثير أو قليل، حول خطّ واحد كبير في تلك التجربة، هو الموقف الثوري، الذي اتخذ مع ذلك تسميات غائمة أخرى مثل ‘الواقعية الإشتراكية’ أو ‘الواقعية الثورية’ أو ‘الواقعية الملحمية’.
وأخال أنّ كتاب الناقد السوري محي الدين صبحي ‘الرؤيا في شعر البياتي’، وكان في الأصل أطروحة جامعية، هو الجهد الأبرز الذي شذّ عن ذلك الإجماع، حين فسّر ـ والأحرى القول إنه قسر ـ مواقف البياتي اليسارية والتقدمية والثورية في مخطط نقدي أسطوري ـ نفسي ـ رمزي محض. والمنهج ذاك، الذي بشّرنا صبحي بأنه سيحقّق ‘كشوفات لم يسبق أن توصّل إليها النقد العربي من قبل’، استند إلى رطانة نقدية حول الوعي/اللاوعي الجَمْعي، قادمة مباشرة من خليط ‘الراسب النفساني’ عند كارل يونغ، و’النمط الأعلى’ الرمزي عند نورثروب فراي، والأنساق الشعائرية الأسطورية عند جيمس فريزر.
غير أنّ المشكلة لم تقتصر على هذا النوع وحده من تمارين القسر، وكان ثمة ما هو أدهى وأشدّ ظلماً للبياتي نفسه، ثم للشعراء الروّاد عن بكرة أبيهم في المقام الثاني. فمن جانب أوّل اعتبر صبحي أن البياتي هو وحده الذي انفرد عن الشعراء الروّاد في امتلاك ‘الرؤيا’. لماذا؟ لأنّ هذه ‘تحتاج إلى عبقرية خاصة هي مزيج من موهبة عظيمة وثقافة بالغة الخصوبة ومعاناة صادقة حدّ الإستشهاد’. وفي رأيه أنّ جيل الروّاد (بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور) لم يتمكنوا من تكوين رؤيا شاملة؛ وأمّا خليل حاوي فقد امتلك ‘إمكانية رؤيا’ ولكنه افتقر إلى الشمول والتعدد، وكانت رؤيا أدونيس ‘تفتقد الإتساق’.
وحين نقف على تعريفه للرؤيا، فإن من حقّنا أن ندهش بالفعل لأنّه يبخل على أمثال السياب وعبد الصبور وأدونيس بالحقّ في امتلاك تلك الرؤيا؛ التي لا تبدو ـ استناداً إلى تعريفه، هو نفسه ـ نادرة عسيرة صعبة المنال إلى ذلك الحدّ. الرؤيا عنده ‘قد تكون صورة أو نظرة إلى العالم أو تبصراً في مصير الإنسان أو تقييماً للصراع بين الخير والشرّ، أو كلّ ما هو تعبير من الكاتب عن قسم من فلسفته للحياة في قصائد، وهي في الوقت ذاته تجربة جمالية تعتمد على تنامي استبصار القارىء في هذه الرؤيا بغية التماهي مع وعي الشاعر’. وإذا كانت تلك هي الرؤيا، من الألف إلى الياء كما يلوح، فأيّ شاعر ذاك الذي يخلو شعره من بعض أو كلّ الرؤيا؟
ومن جانب ثانٍ بدا صبحي متلهفاً على ‘قَوْمَنة’ البياتي، أي تحويله إلى قوموي ميتافيزيقي شبه شوفيني، بعد إسقاط واقعيته والتزامه ويساريته أو حتى شيوعيته. إنه يتحدث مراراً عن ‘العِرق’ و’الماضي غير التاريخي للعرق’، و’شعائر الصراع في التضحية والإنبعاث’، هذه التي ‘تطلّ علينا من وراء الحياة، من ماضي العرق في كفاحه ضدّ الطبيعة وما وراء الطبيعة’. ونتساءل حقّاً عن المقصود بـ ‘العِرق’ هنا تحديداً، في حالة محدّدة هي شعر البياتي وبنيته الرمزية والأسطورية، التي أرادها الشاعر الراحل تاريخية واجتماعية وسياسية؛ بل شاء لها أن تكون ‘واقعية ملتزمة’، في اختصار مبتسر، قد يكون أصدق توصيف للتجربة. ذلك لا يعني، البتة، أنه كان أحادياً في الفكر والخيارات الجمالية؛ أو أنه، كما قال عن نفسه، لم يتقبّلهم ‘كلّهم: الصوفي والعاشق والمحارب والثائر’.
وحين يتطرق صبحي إلى إقامة البياتي في القاهرة، وإهدائه مجموعتَيْ ‘المجد للأطفال والزيتون’ و’سفر الفقر والثورة’ إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، يستخلص أنّ هذا ‘يكشف عن السبب الحقيقي الذي جعله يترك الشيوعية’. أهو سبب جمالي؟ إيديولوجي؟ فلسفي؟ سياسي؟ لا نعرف تماماً، وإنْ كان صبحي يتطوّع بإعلامنا أنّ البياتي أخبره، خلال حديث شخصي، ما نصّه: ‘أنا لست لاجئاً سياسياً في القاهرة، بل أنا ضيف على الرئيس عبد الناصر، وأتقاضى راتبي من الرئاسة’. هل يعني ذلك أنّ البياتي تخلّى عن شيوعيته ليصبح ناصرياً ‘متفرغاً’ مثلاً؟ وهل يكون هذا التحوّل السياسي هو المسؤول عن انقلابه من شاعر ثوري واقعي ملتزم، إلى شاعر أسطوري رمزي شعائري؟ وهل يجوز القول، في المستوى النظير، إنّ إقامة البياتي في دمشق ـ حيث توفي، ودُفن حسب وصيته ـ يعني أنه تحوّل إلى بعثي في أواخر أيامه؟ وهل يبني محاججة مقبولة، أو حتى جادّة، ذلك النقد الذي يتوصّل إلى خُلاصات تعسفية كهذه؟
وفي الذكرى العاشرة لرحيل البياتي، يبدو عمل محي الدين صبحي تذكرة بالحيف الكبير الذي حاق بتجارب الشعراء الروّاد، وسط معارك الأدْلَجة الجوفاء، والتلقف السريع للنظريات النقدية، والتسابق على تجريب المناهج كيفما اتفق: نقد أسطوري، وآخر نفسي، وثالث سوسيولوجي، ورابع بنيوي، وخامس فينومينولوجي، وسادس تفكيكي… ولا يبدو أنّ الزمن النقدي العربي الراهن يزمع اعتماد الحدّ الأدنى من الرصانة في ردّ الإعتبار إلى الراحلين، فالحال سائرة إلى تفاقم، وأباريق الروّاد تمضي من هشيم إلى هشيم!
خاص – صفحات سورية –