صفحات ثقافية

نصوص مجهولة لمحمد الماغوط

null
نحن لبنان جرحُه وضمادُه
في 3 كانون الاول 1961، نشرت “البناء” البيروتية مقابلة مع الشاعر خليل حاوي، وقد تضمنت رأيه، القاسي طبعاً، بعدد من الشعراء امثال سعيد عقل وادونيس وتوفيق صايغ وبدر شاكر السياب. ولم ينجُ محمد الماغوط من نقده الصارم الخالي من المجاملات. بدأ حاوي تقييمه للشاعر اللاجىء من السلمية الى بيروت لأسباب سياسية: “أحب أن اصبّ اللعنة على رأس الماغوط لأنه حمل الى بيروت زياً في الادب أحب البعض أن يعتبره شعراً، وأن يدخلوا من بابه الواسع الفضفاض الى نطاق الشعر”. ورأى حاوي ان محاولات الماغوط “كانت الأساس فيما عرف بعد بالقصيدة النثرية”. ولكنه استدرك ليؤكد ان الماغوط “مع الذين نسجوا على منواله، ادخلوا هذه النثريات تحت موضوع تسهل معالجته، وهو موضوع المزج بين الوحل والعطر والبول وضوء القمر”. واعترف الشاعر الناقد بقيمة “الصورة المدهشة والطريفة” في “منثوراـت” الماغوط، ولكنه لفت النظر الى الخطر في “ان تستقل الصورة وتغدو غاية بذاتها يقصد منها مجرد الطرافة والادهاش”. وختم بقوله: “اننا نظلم الماغوط اذا نحن طالبناه بشحن شعره بالمفاهيم والاحاسيس الحضارية، فهو غنائي في نثره، ذاتي الى حد الاغراق”. بعد اسبوع رد الماغوط على حاوي، ودائما في “البناء” فاعترف، اولا، بفضله في ايقاظ بعض الشعراء من “غيبوبتهم وتأثرهم الابدي بسعيد عقل، (ونهر الرماد) خير شاهد”. والماغوط يقصد ادونيس في الدرجة الاولى. ولكنه أخذ على حاوي تكبّره “عندما يتحدث عن غيره” وشبّهه بكمال جنبلاط الذي يعتبر نفسه “كل شيء وغيره لا شيء”. وردا على اتهام حاوي له “بالقوقعة والاغراق الشديد في الذاتية التي تجعلني غير قادر على تحمل الاحاسيس الحضارية” اتهمه “بالنظر المستمر الى الماضي” النابع من “عدم فهم الحياة الجديدة واستخلاص الحقائق منها على حساب الاساطير”. وجزم الماغوط بأن عهد الاسطورة “قد انتهى” وبدأ عهد “الحياة الحية الخلاقة البعيدة عن الرمز والتمائم والعرافات”. وختم بالنصيحة الجريئة الموجهة الى حاوي رغم فارق العمر والشهرة: “اليك بالحياة يا دكتور خليل، بالرصيف، بالضجر، بالمرأة، بأوراق السندويش، بالايام التي تمر… لأن التاريخ لن يسجل في سجله: قال خليل حاوي، بل كتب خليل حاوي”. وجرأة الماغوط لا تنحصر في توجيهه نصيحة من هذا العيار يسديها الشاعر الناشىء الى شاعر مخضرم من وزن وعزم حاوي، بل ايضاً في تمرده المداور على رأي انطون سعاده في الشعر والاسطورة، وهو الذي اعتنق عقيدته وانضوى في حزبه. صحيح ان سعاده كان مستقبليا في مفهومه للشعر الحديث والادب الجديد. ولكنه كان شموليا بحيث انه ربط المستقبل المشرق بالتراث المضيء الذي يشمل الاسطورة. طبعا، كان يمكن ان تستمر الردود بين حاوي والماغوط، وان يدخل على الخط بعض المعجبين بساخر السلمية او بالشويري الجاد. ولكن المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت بعد ايام من تاريخ رد الماغوط، عطلت لغة الحوار، بعد ان تعطلت “البناء” واودع الماغوط بيت خالته في ثكنة المير بشير اولا، وفي سجن المزة تالياً.
وبالمناسبة فالقراء الذين ضحكوا من نهفة الماغوط حول ظروف انتمائه الى الحزب القومي في لقاء التدفئة التي وفرتها له صوبيا منفذية السلمية، وانسحابه منه بعد اشهر، قد تحتل الدهشة كامل مساحة وجوههم حين يعلمون ان الماغوط انتمى الى حزب سعاده في غرّة 1950، وان حواره التصادمي مع حاوي عبر صفحات جريدة الحزب القومي التي كان يحرر فيها عموده اليومي، قد جرى بعد اكثر من عشر سنين، ناهيك بأن عشرات القصائد ومئات المقالات التي نشرها في بعض الدوريات البيروتية والدمشقية من مثل “النهضة” و”البناء” و”الزوابع” و”الجندي” و”الآداب” و”النقاد” و”الاجيال” و”الدنيا” و”الزمان” و”الصدى العام”، تؤكد على انه درس ادبيات سعاده وبخاصة كتاب “الصراع الفكري في الادب السوري” خلافا لما ادعاه بأنه لم يقرأ حرفا من تلك الادبيات.
تبقى ملاحظات ثلاث لا بد من تسجيلها في ختام هذه العجالة المتمحورة على بدايات الماغوط الشعرية والمعززة بنماذج من بواكيره. اولا: لا يحتاج القارىء الى كبير عناء ليكتشف مدى تأثر الماغوط بجبران وتحديدا في كتابه “دمعة وابتسامة”. وبالطبع لا يعيبه ذلك، وهو الشاعر والاديب الناشىء. فجبران بدوره، قد تأثر بكتاب “غابة الحق” لفرنسيس المراش حين نشر بواكيره تحت عنوان “دمعة وابتسامة” في جريدة “المهاجر” بدءا من العام 1905. ثانيا: اذا كانت السخرية قد طغت على نثر الماغوط، فان الجدية المجلببة بالسواد شكلت القاعدة في شعره، وحيث ان لكل قاعدة استثناء، فان القليل من قصائده لم يخل من السخرية، من مثل قصيدة “منام” المجهولة التي ٍ”ينسبها” الى الرئيس جمال عبد الناصر. ثالثا: لا يختلف الماغوط عن غيره من الشعراء المبدعين لجهة تعتيمه على بداياته. ومن حقه ان يفعل ذلك لأن بواكيره متواضعة قياساً لقصائده اللاحقة. ولكن الاطلاع على بدايات الماغوط شرط اساسي لمعرفة الاساس الذي انطلق منه والشاعر الذي تأثر به، اذ ان المبدعين يخضعون ايضا لناموس النشوء والارتقاء ولا يهبطون بالمظلة على القراء بكامل ابداعهم ونضجهم. لذلك، كانت هذه العجالة، وسيكون كتاب “محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي” الذي يصدر قريباً ويحتضن، اضافة الى الدراسة، رواية “غرام في سن الفيل” وستين قصيدة ومقالة، وكلها مجهولة.
السخرية في البدايات النثرية

طرت من لندن الى دمشق منذ عشرين سنة لنبش بدايات محمد الماغوط الساخرة مقدمة لنشر نماذج منها في احدى الدوريات العربية البريطانية. وفوجئت بأن نتاجه في بداياته، اي في مستهل الخمسينات من القرن الماضي، كان مستعيراً شوارب هتلر وستالين ولحية كاسترو.
طبعا لا يصح القول بأن الماغوط ساخر شفهياً وجاد كتابياً. ذلك أن نتاجه الساخر في الدوريات وعلى خشبة المسرح، يضج بالفكاهة والسخرية المضحكة المبكية. اما لماذا لم يكتب وينشر ادباً ساخرا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، فلاعتقاده ان ذلك لا يتناسب مع اعتناقه عقيدة سعاده وانضوائه في حزبه، خصوصاً وان قسمه الحزبي حصل بعد اشهر من اغتيال سعاده. وربما عزز الاعتقاد الخاطئ ان معظم الشعراء والادباء القوميين امثال فؤاد سليمان، كانوا مجلببين بالالوان السوداء. فمتى بدأ الماغوط الكتابة الساخرة، وهل حل ذلك بعد ان قرأ لرفيقه سعيد تقي الدين كتابات ساخرة في دوريات الحزب القومي؟ ام ان احد المسؤولين في الحزب قد طلب منه تفعيل موهبته في الكتابة الساخرة بعد ان وجدها محصورة في محاوراته؟
وهكذا، في الوقت الذي عثرت على عشرات القصائد الجادة في دوريات دمشق وبيروت، وبخاصة في “الجندي” و”النقاد” لم اعثر على قطعة نثرية ساخرة من التي نشرها فيما بعد، في جريدة “الرأي العام” ومجلة “الشرطة” الدمشقيتين، ومجلة “المستقبل” الباريسية. وحي التقيت الماغوط في مقهاه الدمشقي المعهود، سألته عن المطبوعة التي دشن فيها مقالاته الساخرة، وفي اي تاريخ واية عاصمة؟ ولأن السخرية عزيزة على قلبه واحدى سمات ابداعه، فلم يتبرم من السؤال او يحجم عن الجواب، بل قال بسرعة ألف كلمة في الثانية: “البناء” البيروتية هي التي احتضنت باكورة نتاجي الساخر منذ اعدادها الاولى في العام 1958. ولما كانت مجموعة هذه الجريدة محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني، فقد تذكرت بيت احد الشعراء الكلاسيكيين الذين يصر الماغوط على رد معظمهم الى العصر الفخاري:
العيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
لم تكن مساهمات الماغوط في “البناء” قليلة العدد ومكتوبة في اوقات الفراغ لأديب هاو كان يخدم الجندية او يفتش عن وظيفة. وانما هي تراكم هائل من نقد ادبي واجتماعي وسياسي ساخر. بقي نبعه كامنا حوالي عشر سنوات، وتفجر دفعة واحدة. لذلك، اتسمت مقالاته التي تواصلت على مدى 36 شهرا، والموقعة احيانا باسمه الصريح، واكثر الاحيان باسماء مستعارة، بالسخرية اللاذعة المضحكة المبكية، والتي لا تعترف بالحدود والسدود، وانما تستهدف تدمير من تسخر منه، سواء كان نظاما او سياسيا او مجرما. من هنا سر اقبال القراء عليها، مما ساهم في ترويج الجريدة، وانزعاج السياسيين منها، وقد ادى الى تعطيل الجريدة بسببها، واصدار حكم ظالم بالسجن بحق كاتبها، على حد تذكر زميل الماغوط في “البناء” محمود غزالي.
فماذا عن نتاج الاديب الساخر الراحل، في تلك الحقبة المجهولة والتأسيسية، والتي يستحيل على الباحثين تقديم صورة واضحة وكاملة عن ادبه الساخر بدون التوقف عندها؟ لا يتسع هذا القمقم لمارد نتاج الماغوط الساخر الذي انفجر في “البناء” صيف 1958. لذلك اكتفي بعرض نماذج من تلك المقالات التي نشرت في اعمدة ثابتة بدءا من عمود “على الهامش” وموقعة في البداية بالاسم الحقيقي الكامل او الاول منه، وبإسمين مستعارين “سومر” و”شيبوب” بعد احالة الماغوط على المحاكمة وصدور حكم يقضي بسجنه وتغريمه.
شاءت الصدفة ان يباشر الماغوط عمله الصحافي في “البناء” ولبنان على فوهة بركان اقتتال داخلي وصل ذروته في صيف 1958. و لما كان الماغوط عضوا في الحزب السوري القومي الاجتماعي ومحررا في الجريدة الناطقة باسمه، والحزب المتحالف اليوم مع سوريا والناصريين اللبنانيين والشيوعيين وغيرهم، كان على خلاف حاد معهم. من هنا سر الكلمات السياسية الساخرة التي وجهها الماغوط نحو الشيوعيين وعبد الناصر ونظام الحكم في دمشق آنذاك، واحيانا من تحت الزنار. وبالطبع لم يتغزل الخصوم بكحل عينيه، فكانوا احيانا المبادرين بتوجيه اللكمات ومن تحت الزنار ايضا.
استهل الماغوط مقاله المعنون “من حصاد القومية العربية” بهذه المقدمة: “احب الكذبات الصغيرة والنكات السهلة، كأن يخلف الانسان موعدا مع صديق ثقيل، او ان يقفل غرفته جيدا عند تناول الطعام. اما الكذبات الكبيرة التي تقضي على امم وشعوب، فانني اكرهها. والشرق الاوسط الذي ابتلي بالقومية العربية حديثا، اصبح يعج بمثل هذه الكذبات الكبيرة، اكثر مما يعج بالنفط والمزارع”.
وتحت عنوان “طارت اسرائيل” قال الكاتب ان دولة عربية جديدة “اسمها (عموم فلسطين) تستيقظ من عز النوم، لتقول وهي تتثاءب، ان فلسطين عربية ولا يمكن ان تحل ازمة الشرق الاوسط دون الاخذ بهذا الرأي. ثم وضعت يدها تحت رأسها، وتابعت النوم”. اضاف منتقلا من القاهرة الى اليمن: “وقبل هذا، كان الكونغرس اليمني الذي يجتمع في كل سنة كبيسة مرة، قد اقر في اجتماع عاجل يوم امس، بأن اسرائيل دولة مسخ، وان القومية العربية وتوابعها ستنتصر باذن الله، ولن يستطيع الاستعمار، مهما لبس من اقنعة، ان يقف في وجه الشعوب، ذلك الاستعمار الذي يحاول تطويق البلاد العربية وخنقها اقتصاديا”. اضاف معلقا على العبارة الاخيرة: “وانا اراهن انه لا يوجد في اليمن كلها نائب واحد يعرف ما تعني كلمة اقتصاد”.
ولما كثرت التفجيرات في وسط بيروت التجاري قال الكاتب تحت عنوان “الى الامام حتى آخر بيت في لبنان” انه “في هذه الأوقات الحرجة التي يجتازها باب ادريس، وفي الساعة السابعة والنصف بتوقيت (مقهى مسعود)، حيث كانت سيارة فولكسفاكن تقف بطريقة استعمارية امام احد الحوانيت، انفجرت بين دواليبها قنبلة شامية ممشوقة القد، وصدر عنها صوت عربي اصيل اكثر حناناً من صوت فيروز… فتطايرت الدواليب وتحطمت المحلات، بكل هدوء ونشوة”.
وردا على مراقبة الصحف والمساحات البيضاء الناتجة عنها، استهل الماغوط تعليقه بالانذار التالي: “انني احذر المراقبة من المزح معي، والتعرض لـ”على الهامش” في غيابي، لأن هذا تشجيع للاستعمار. فانا لن انسى ابدا، تشويه مقالي يوم امس، وتقديمه مكسوفاً الى القراء. والجدير ذكره ان ثمانية اسطر طارت من مقال الثاني من آب بفضل ممحاة المكتوبجي.
ولما كانت دقات المكتوبجي متواصلة على باب الماغوط، فقد رد عليه محرر “على الهامش” برسالة مفتوحة استهلها بالاسئلة التالية: “حضرة المراقب العالمي… تحية عربية انيقة وبعد: من اعماق باب ادريس، ومن صميم الازمة الداخلية في لبنان، اريد ان اسألك: هل انت حلاق ام مراقب؟ ما معنى ان تبقى الجريدة اربع ساعات امامك تبحلق بها؟ هل هي نهج البلاغة؟ ام ديوان المتنبي؟ حتى تحتاج كل هذا الوقت؟” وختم مهددا متوعدا ربما لاعتقاده ان مقاله سيمحى عن بكرة ابيه: “اهدأ ايها الاخ النبيل المتغطرس، وراقب وانت (صحيان) فنحن لسنا مضطرين لتحمل الأمزجة الرقيقة، لأننا في معركة موت او حياة، والا وضعتك في كركون (على الهامش) اطول مدة ممكنة، ولن تخرجك منه الف واسطة ووسيلة. واعذر من انذر”. ولم يحذف المكتوبجي حرفا واحداً من الرسالة التهديدية ليس فقط خوفا من سخرية الماغوط، ومن جدية السلطة الرابعة القوية والعريقة في لبنان، بل رعبا من الحزب الذي ينتمي اليه الكاتب.
وانتقد الماغوط الشيوعيين بسبب تسللهم داخل مظاهرات الآخرين ومحاولتهم استغلالها لصالحهم. وتعزيزا لرأيهم، روى في مقال “انتفاضة في ساحة الخضار” الحادثة الطريفة التالية: “كان حزب الشعب في الحكم، وكان احمد قنبر وزيراً للداخلية، وهو من ألد اعداء الشيوعية في العالم. وقد ارتفعت في تلك الاثناء اسعار الملفوف ارتفاعا فاحشا، وسكان دمشق يمكنهم الاستغناء عن الاستقلال والعروبة ومجلس الامن ولا يمكنهم الاستغناء عن الملفوف. ولذلك قرر بائعو الخضار القيام بمظاهرة سلمية صغيرة تطالب بترخيص اسعار الملفوف، ومن ثم الخضروات المستهلكة في دمشق. وبالفعل اقفل باعة الخضار محلاتهم وتجمعوا في مركز سوق الخضرة وساروا باتجاه وزارة الداخلية، وهم يهتفون مطالبين بترخيص اسعار الملفوف رأفة بالاستقلال والوحدة العربية، وما ان وصلوا الى ساحة المرجة حتى تسرب الى صفوفهم، التي لا تعرف ما يدور خارج دمشق من امور سياسية، بعض الطلاب الشيوعيين واخذوا يهتفون معهم بخصوص الملفوف. وبعد قليل صرخ احد الشيوعيين: تسقط فورموزا، يحيا السلام العالمي! فرد عليه بعض المتظاهرين: تسقط فورموزا! فيجيب عليهم آخرون: يعيش الملفوف! بينما يصرخ خضرجي آخر: حمرا يا بندورة! وما ان وصلوا الى شارع فؤاد، حتى اختلط الملفوف بالصين الشعبية والجزائر، فما كنت تسمع الا: تعيش فورموزا، يسقط الملفوف عاش نضال القرنبيط في الجزائر! وضج الشارع بالضحك. ووقف المتظاهرون امام مبنى وزارة الداخلية فنزل اليهم الوزير وطلب من زعيم المظاهرة واسمه (ابو رياح) يلبس شروالا فضفاضاً ويحمل بيده خيزرانة وشواربه ترقص من الغضب، وسأله الوزير عن مطاليب سوق الخضرة، فقال له بالحرف الواحد: سيدو، الملفوف نار كبرا، وكيلو الفورموزا بليرتين، الحالي ما تنطاق سيدو”!
وكان لعرس فقر الماغوط اكثر من قرص، لذلك توّجت كلمتا “موضوع قديم” التعليق المؤلف من اربعة مقاطع، حيث نقرأ في الثاني منها ما يلي: “يقول انطون الغريّب، محرر الزاوية الاقتصادية في جريدة “النهار” انه لبناني بدءا من الاقتصاد، وانا اقول بهذا الخصوص انني لبناني بدءا من مطعم ابو عفيف” لماذا؟ “لأنني عندما اذهب لقبض راتبي من محاسب هذه الجريدة، اشعر بيأس فظيع، كأني ذاهب لفحص البكالوريا. وعندما احظى بمقابلة امين الصندوق، واعلمه بسبب قدومي، يدفع لي ما تبقى من راتبي والشرر يتطاير من عينيه كأنه يتبرع لأسبوع الجزائر”.
وتحت عنوان “الكوليرا خير من الشيوعية” تساءل الماغوط: “ماذا تنفع اغاني عبد الحليم حافظ ومحمد عبد المطلب عن السد العالي ونترات الشيلي في هذا الظرف الخطير؟ اذ ليس المهم ان يأكل الصعيدي كاتو ورز بحليب بعد عشرين عاما، بقدر ما يهمني ان يأكل صحن فول بكل ملء حريته، ودون ان يراقبه احد من نوافذ المطعم. فالشيوعية اذا ما نجحت، ستحصي حبات الفول التي في صحنه وكثافة الطحينة وغير ذلك من الامور المهمة للسلام ومحاربة الاستعمار”. اضاف محذرا اللبنانيين: “تصوروا ايها الاخوة في التبولة صواريخ روسية موجهة تنطلق من بسكنتا، وخبراء روس ينصبون المدافع المحبة للسلام في الفريكة… تصوروا مرة اخرى الجزمات الروسية تضرب ابواب الجامع العمري لتعبىء المصلين والعجائز في المصفحات المحبة للحرية، لتحاكمهم بتهمة التلاعب بأسعار القصدير وتعلق مشانقهم باسم الله والشغيلة”.
وختم مصعّداً من تحذيره: “استيقظوا او ناموا لا تفرق معنا، وكفاكم اكل فراريج وشرب ويسكي في الليل وكتابة افتتاحيات عن اسعار البطاطا والمتبل في اليوم التالي. نحن على حافة هاوية سحيقة. فإما ان نتدحرج جميعنا، وإما ننتصر على الشيوعية، وبعد ذلك نتحاسب مع بعضنا. وتأكدوا انكم بدون القوميين، لا فائدة منكم”.
بعد يومين، نشر الماغوط مقالا بعنوان “خونة وابطال” قال في مستهله: “لعنة الله على الساعة التي ولد فيها ماركس ولينين ومحمد عبد المطلب” ولعن ايضاً العصر “الذي اصبحت فيه الطالبة اللبنانية تتحدث عن مؤتمر غانا والغرف التجارية اسبوعا كاملاً في الوقت الذي لا تعرف فيه ان تطبخ صحن شوربا”.
وتساءل الكاتب في المقطع الاخير من المقال: “ماذا يعمل هؤلاء الصحفيون الذين يتسللون بعد الغروب الى السفارة الروسية؟ هل يقومون بقراءة نهج البلاغة او في دراسة تطور زراعة الملفوف في الكورة؟ حتما لا. انهم يقبضون، وهذا ما يغيظني. نحن الذين نكتب ونكافح ونناقش والطفر يتبعنا كظلنا وبالتالي نحن الخونة والمأجورين واذناب الاستعمار، وهم الذين يقبضون الروبلات ويتمسحون على منضدة السفير الروسي وينحنون امامه كالارتيستات، هم الابطال والمخلصون والابرياء اليس هذا مقلقا ايها الاخوة في سينما الحمرا او جهنم الحمرا؟”.
بعد دقائق من ظهور المقال اغلقت بوابة سينما الحمرا وانفتحت ابواب جهنم الحمرا في وجه محمد الماغوط، فقد اتُّهم باهانة النبي محمد وحوكم وحكم بالسجن وبالغرامة المالية، رغم ان الاهانة موجهة الى المطرب المصري محمد عبد المطلب، بشكل واضح، خصوصا اذا قرأ القاضي “النزيه” المقال السابق حيث سخر الماغوط من المطرب عبد المطلب. وسأعود الى المحاكمة بعد قليل.
ونتيجة الحكم “العادل” غاب الماغوط حوالي العام عن “البناء” ثم عاد متجلبباً بتوقيع مستعار “شيبوب” ولكن من غير ان يخفف من عيار سخريته من بعض السياسيين والاحزاب والأنظمة، وبخاصة الشيوعيين. كان الصحافي الماركسي امين الاعور ينتقد “القوميين السوريين” باستمرار، وبأسلوبه اللاذع، عبر صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني. رد عليه الماغوط في عدة مقالات. قال الماغوط في احدى المقالات الى “العميل” امين الاعور: “انك تصرخ كابن آوى وتستغيث لأن شرطة المباحث في الشام تضرب الشيوعيين بالسياط وهم عراة؟ وماذا تنتظر؟ ان يضربوا لهم على الآلة الكاتبة؟ ان يجلدوهم وهم يلبسون الروب ديشامبر؟ تتحدث ايها الاعور عن شاعركم شوقي بغدادي وكأنه المطران مكاريوس. وتتحدث أن يحقق معه شرطة قساة من البدو. وهل كنت تنتظر أن يحقق معه بودلير او حافظ ابراهيم”؟ اضاف الماغوط منوهاً بما قام به الشيوعيون ضد القوميين يوم كانوا شركاء في الحكم: “كنتم ترتعون في شوارع دمشق وثكناتها كالارتيستات تنظمون اللوائح بالاحرار، وترافقون الشرطة التي تسلخ جلودكم الآن، الى مخادع زوجاتنا واطفالنا لزجهم في سراديب المزة… تلك الثكنات التي حولتموها الى اوكار معتمة تحيكون فيها المؤامرات ضد القوميين الابطال”.
وفي رد آخر بعنوان “العتب على النظر” قال الماغوط: “عزيزي امين: صباح الخير او روز اليوسف. يقول المثل ان النصيحة كانت تساوي (جمل). اما الآن فيبدو انها لا تساوي غسالة عالكهربا. ومع ذلك سأنصحك نصيحة خالصة لوجه الله. إعلق مع المهداوي. مع التكميل، ولا تعلق معي”. اضاف ردا على اتهامه له بالقبض: “تعيّرني بقبض الدولارات والاسترليني. التكميل يقبض روحك. إنني أطفر انسان في الكتلة الآسيوية الافريقية. واسكن في غرفة تشبه سيارة الفولكسفاكن. فمن اين الدولارات والاسترليني؟ وعلى كل حال، العتب عالنظر”.
والماغوط هنا يسخر، مداورة، من اسم عائلة الصحافي الشيوعي.
فجأة غاب التوقيع المستعار “شيبوب” ليحل مكانه توقيع مستعار آخر “سومر” من غير معرفة سبب التغيير. ولكن مقالات “سومر” توّجت بعنوان دائم “موال” في حين خلت مقالات شيبوب وهي قليلة، من العنوان الدائم، مع ان المقالات الاولى للماغوط الموقعة باسمه الكامل احيانا وباسمه الاول في معظم الاحيان، كانت متوجة بالعنوان الدائم “على الهامش”.
تحت عنوان “بالبيض يا صابون” رد الكاتب على جريدة “الجمهورية” المصرية التي قالت ان “بامكان المواطن المصري بعد عشرين سنة ان يكون بمستوى الشعب الاميركي فيلبس برنيطة مثل روبرت تايلور، واحذية جديدة من مصانع شعبية لا تأخذ منه سوى التكاليف، وجهاز تلفزيون”. وعلق الكاتب على الوعود، مشككاً بامكانية تحقيق الوعد الخاص بالتلفزيون “لأن الكلام شيء والفعل شيء آخر. فأنا باستطاعتي مثلا ان اقول للشعب اللبناني ان كل خروف في لبنان سيلبس بنطلون بعد خمسة عشر عاما، وكل بقرة في عكار ستلبس سوتيان”. لم تحصر “الجمهورية” وعودها بالاقليم الجنوبي بل وجهته ايضا الى الاقليم الشمالي في “الجمهورية العربية المتحدة”. وكان تعليق الكاتب “اذا كان بعد عشرين سنة سيكون لكل مواطن مصري حذاء وبرنيطة وتلفزيون، فاننا نؤكد للشعب الشامي نيابة عن الصحافة المصرية بأنه بعد خمسة عشر عاما سيكون في كل قن دجاج شامي تلفون وطاولة بليار على الاقل”.
لم تختلف مقالات الماغوط في مرحلة ما قبل المحاكمة عن مقالات شيبوب وسومر في المرحلة التالية. ويعود ذلك الى عدة معطيات منها:
-1 اصراره على كتابة سخرية لاذعة بلا حدود. 2- تهجئته لأسماء السياسيين والصحافيين المعادين للحزب القومي.
3- والانعدام شبه المطلق للرقابة الذاتية، لذلك، حين استأنف الماغوط كتاباته عبر توقيعيه المستعارين الشفافين، انتصب شبح تعطيل “البناء” ودفع الغرامات الباهظة وسجن المدير المسؤول وكاتب المقالات، امام رئيس التحرير انعام رعد. وسرعان ما استدعى الماغوط وابلغه بقرارين احلاهما مر: كتابة مقالات اجتماعية بعيدا عن شؤون السياسة وشجونها، والانتقال من الصفحة الاخيرة الى الصفحات الداخلية. فماذا كانت ردة فعله؟
في مستهل مقال “حنين” قال الماغوط: “في الحقيقة صدمت كثيرا عندما تبلغت بأني سأشحن انا وموالي الى الصفحة الثالثة”، تماما كما يصدم الموظف النشيط حين يتبلغ نقله من “رأس بيروت الى سن الفيل”. اضاف مستدركا: “ولكن عندما فكرت في الموضوع تبين لي انني مخطىء. فقد كلفت بتحرير الاخبار الاجتماعية من ولادة ووفاة وطلاق ونشل وسينما، بمعنى اني سأكون المكلف دائما بحضور الولائم والحفلات وهذا ما يعطيني املاً قوياً في الحياة ويجعلني اموت بالسكتة القلبية في سبيل هذه الزاوية”. واستدرك مرة ثانية ليشير الى سلبية واحدة: “ما هو المغزى التاريخي من وضع زاويتي بجوار الزاوية الاقتصادية؟ والكل يعرفون، والعالم كله يعرف، ان بيني وبين الاقتصاد عداوة مستحكمة، كالعداوة بين فورموزا والصين الشعبية. وانا كثيرا ما تمنيت ان يكون جاري في هذه الصفحة عفيف البرزة او محمد الجراح وليس أنطون الغريب. ولكن من يدري؟ فقد نتفق في المستقبل ونصبح مثل شامل ومرعي”. ولكن رغم الولائم المتوقعة وامكانية “التصالح مع الغريب، فالكاتب ظل يحن الى الصفحة الثامنة الأخيرة اكثر من حنينه للرجوع الى الشام، خصوصاً وان “هيئة التحرير قد تضطر في المستقبل ان تطلب قوات دولية لتفصل بيني وبين انطون الغريب”.
لم تمر سخرية الماغوط من دون ردود ساخرة. ولكن كفة صاحبنا ارجح من كفة ضحاياه، لأن السخرية موهبة، وقد ولدت مع ولادة الماغوط في “السلمية” ولم يتعلم اصولها في كلية الاعلام، لذلك صمم خصومه على محاربته بسلاح الجدية وتحديداً في احدى محاكم العدلية. وجاءت لحظة الانتقام اثر صدور مقال “خونة وابطال” حيث قال الماغوط في السطر الاول منه “لعنة الله على الساعة التي ولد فيها ماركس ولينين ومحمد عبد المطلب”. وبعد دقائق من صدور المقال، شنت حملة اعلامية ضد الكاتب وتوجت بدعوى في محكمة المطبوعات. وخلاصة حيثيات الحملة والدعوى، ان الماغوط “جدف على النبي العربي” على حد تعبير وتأكيد النيابة العامة. لم يحضر الماغوط المحاكمة التي عقدت في 23 كانون الاول 1958 ولكنه لفت نظر محاميه عبدالله قبرصي ومدير الجريدة المسؤول علي هاشم الى انه نشر، قبل يومين من المقال الذي يحاكم من اجله، مقالا ورد فيه التساؤل التالي: “ماذا تنفع اغاني عبد الحليم حافظ ومحمد عبد المطلب عن السد العالي في هذا الظرف الخطير؟ اذ ليس المهم ان يأكل الصعيدي كاتو ورز بحليب بعد عشرين عاما، بقدر ما يهمني ان يأكل صحن فول بكامل حريته ودون ان يراقبه احد من نوافذ المطعم”. وكان ذلك كافياً لاقناع هيئة المحكمة بأن الكاتب كان يقصد المطرب محمد عبد المطلب في المقال اللاحق. ومع ذلك حكم “بالحبس مدة سنة ونصف وبتغريمه اربعماية ليرة لبنانية”. وبدورها حيدت رئاسة التحرير الماغوط عن الجسم التحريري لعدة اشهر. ثم اقترحت عليه كتابة ادب ساخر بعيد عن السياسة واهم منها، ويساهم في تخليد صاحبه.
وحين عاد لكتابة تعليقه الساخر كسابق عادته، غاب اسمه الكامل او الاسم الصغير عن مقالات، لتحل مكانه الاسماء المستعارة ومنها: سومر وشيبوب.
وبعد… يمكنني القول ان الماغوط ابدع منهجا جديدا في السخر وهو دون الثلاثين، لأني لم اجد شبيها لمنهجه بين جميع الساخرين المبدعين في لبنان وبلاد الشام ومنهم احمد فارس الشدياق، واسكندر العازار، واسكندر الرياشي، ويوسف الخازن وسليم سركيس وسعيد فريحة وسعيد تقي الدين.
لعل احد الفروق بين ساخر بعقلين وساخر السلمية، ان الاول كان في ذروة ابداعه الادبي وسخريته حين انتمى الى الحزب القومي، في حين ولد ادب الثاني في كنف الحزب وتفجر ابداعه وسخره بعد ثماني سنوات من انضوائه في صفوفه، وعبر “البناء” التي احتضنت بواكير مقالاته الساخرة. وجريدة الحزب هنا تشبه جريدة امين الغريب “المهاجر” التي احتضنت جبران واطلقت بواكيره ¶

نصوص مجهولة

ارتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواء

كم جف ريقك ايها البطل
وكم لفحت الشمس اللامعة جبينك الاسمر،
ورسم الدخان المتفجر… مخادعه فوق اشلاء زندك…
وانت بعيد عن تفجر القطران الباردة،
في قلبك الظامىء…
كم… وكم ظمئت يا رفيقي… وفي يمناك تحمل…
اعناق العدو…
وفي يسراك تفتح طريق المجد من خلال الجروح… وتنافر الدماء.
*
واذا ما كفت الهتافات الحمراء عن زعزعة القلوب واستراحت آمالك المتدافعة بين الدم والرماد
سرعان ما تمد اصابعك الرشيقة الى حقيبة
تناهز جنبك…
لتعب منها الثلج المذاب…
وشفتاك المتلاصقتان بفوهة الوعاء…
تعانق نشيد القطرات بغبطة وانسجام
بعد ان راحت عيناك المغمضة من نشوة الحس الرطيب،
تلمح من خلال الآفاق… آبار المجد والكبرياء
وبعد هذا يستيقظ سيفك المصقول من غمده المظلم
ليرتوي من الأعماق الخائفة… من النبع الاحمر… من اشلاء زندك الممشوق.

“الجندي” العددان 105 و106
16 كانون الثاني 1952

الأم الــكـــســــــولــة

استيقظي أيتها الأم الكسولة
فالمدينة الصرعى يخنقها الضباب
وأرواح عارية تحت القصور
يجمدها الصقيع الملعون
***

فأورديني النهر يا أماه. لأستقي جرعة باردة من ينابيع الارض
الارض التي ملأناها بالسنابل والزهور.
***

فأنا ظامئ منبوذ
أجوب هذا الشارع المظلم الطويل
لأرشف قطرة من النبع الطروب
حيث تستحم الحجارة البيضاء
الحجارة التي بلون قلبي.
***
ولكن ماذا أسمع أيتها الأم العجوز
رنين الكؤوس
ونشيد قطرات نازفة من جرح العناقيد
تعارك الحناجر
وتسيل على المناضد الزجاجية
فمنذ قليل…
مات أخي ذي العينين الرماديتين
وعلى جبينه الابيض
ناحت فراشة الجمال
فأورديني النهر يا أماه
وإلا رحلت عنك الى الابد
وصنعت نعشي من عظام أخي…
“الزوابع” – العدد 78
22 شباط 1954

لــيـــــــــالـــي الــمــجـــــــد

إيه يا ليالي…
هل تذكرين رفيف جناحي…
بين سحب ضليلة… طائشة العنان…
الى منفى الغرباء… الى ديار المنفيين…
الى وهدة مظلمة…
لا حدود لها ولا قرار…
حيث اتصال جناحي المرهق…
تنطوي بألم وحرقة!
فاسخري يا ليالي الآن…
من جرحي الشاكي السحيق…
واملأي قلبك الاسود المجنون،
صدى من حفيف جناحي!
اعزفي اعزفي… وانثري في أعماقك البلهاء…
رذاذاً من دمي… فتاتاً من كبدي…!
وانك مهما استلبت…
من صدر الرجولة والشموخ…
لن تطول بك الساعات…
أيتها العرائس القبطية المتفحمة
لن تطول أبداً… تهصرين الاكباد
ظلماً وافتراء…
فسأشعل في أركانك…
صحواً من شرايين القمر.
وأحنو على مهدك الأحمق الشرير…
بجرأة… بجرأة واطمئنان
لأصرع وخزك واشواكك
بشاعرية الجروح
بعبقرية الفنان الشريد
لأنك لن تشعري
بإحمرار القوة الثائرة
إلاّ من أصيل الألم
ولن تتألق نجومك الهزيلة الكابية
الا من دماء الغروب
من أعناق المساء…
فمرحباً أيتها العواصف الزاحفة…
من مغارب القطب الجليدي…
فلن تجمد عروقي…
لأنها فروع مقتطفة…
من حديقة الحب والجمال…
وأهلاً أيتها الوحوش الكاسرة،
فلن تلوثي شفاهك المجرمة…
بنزوات دمي…
لأنها خمرة عذراء…
متقطعة… من عناقيد الحس والشعور!
*

فانطقي ما استطعت… أيتها الاوهام والأخيلة.
وأغرسي في حناياي
أصلب ما في فكوكك…
من انجاذ وأنياب…
لأن قلبي اليوم
أصبح مصرعاً وقاتلاً… للبرد والاسوار
لأن قلبي اليوم
أصبح أعنف مرفأ في العالم
يتحمل مسؤولية التألم والنضال
ضد الأعاصير
ضد الانانيات الجانية
والآهات المجرمة
في هذا المجتمع المخنوق

“الجندي” العدد 97
1 أيلول 1951

مـــنـــــــــــــــــــــــــــام

قصيدة حديثة لعبد الناصر

في الساعة الثامنة بتوقيت غرينتش
رأيتك يا دمشق في المنام
أنام على زندك انا وصائب سلام
سعيداً معطراً كأنني خارج من الحمام
والقمر الوليد… يطل من بعيد
يصرخ بي كأحمد سعيد… يا بني يا جمال
ان عدت ذات يوم… فرموك في سوق الهال
فاجلس على الصندوق… كأنني ساقط في الحقوق
اعد الدقائق والثواني
احلم بالزهور والمدى
وبقبلة من اكرم الحوراني
والدهر يدور… وانا احلم بالعودة
على جناح غيمة او حنتور
*

وعندما ادرك الحقيقة
وان عودتي حلم من الاحلام…
اصرخ كالنائب العام…
وابكي واتمتم كالحسون…
أيها الاخوة المواطنون.
فيجيبني الصدى: نون نون
فيجن جنوني، واكوي بنطلوني
لأنتظر من جديد… كطفل صغير
كقنبلة على مدخل البريد
*

أحلم بالهبوط في المطار… كنجمة او هزار
محمولا على الاكف والراحات… كأنني ناجح في الانتخابات
محمولا على الاكف والجماجم
لأعملك يا دمشق فتة مقادم
انقذني يا يوسف مزاحم.

“الصدى العام” – 8 آب 1962

الــســـيـــوف الـعــربــيـــة

أيها الحبر، انك جبان
ايها الدم… انك ذليل
الجبل يصير عتبة،
والزهرة جمجمة فوق الاطلال…
يا بريق السيوف العربية!
يا نظرات الدم الاخيرة الى الاشجار
نحن المصابيح الاخيرة
والازهار الطافية فوق المتاريس

* * *

سنقف وسط المياه القاتلة
نقرع الابواب المغلقة بأرجلنا
ونصرخ كزوبعة بعيدة من الطيور الخضر.
ايها التراب العربي الاحمر،
ايتها الصخور المليئة بالكذب
نحن الالم والنصر،
نحن الاقدام التي تربت على رخام الطريق،
حيث الحقد ذو الاسوار العربية
ينفتح امام عير الحرب
وزفرات الخيول…
نحن لبنان،
نحن جرحه وضماده.

“البناء” 30 حزيران 1958

مرحبا أيها الزواج

ازمة الزواج في العالم العربي تشبه الى حد بعيد ازمة السير في لبنان. وتزيد هذه الأزمة تعقيداً، آراء بعض الشباب المتفلسف بحيث يصورون الزواج على انه جحيم دانتي، واغلب هذه الآراء مزيفة وغير صحيحة. لأنني اعرف من نفسي، فمع انني من اقطاب هذا الرأي فلو طلب مني ان اصير رئيس وزارة، او أن اتزوج لاخترت الزواج مهما كانت النتائج. رغم انني في احاديثي مع الناس اصرح دائما بأن حرب “العلمين” اقل خطورة من الزواج. ولذلك اعتقد انه من الضروري عقد مؤتمر ذروة في احدى الدول العربية المحايدة، لبحث هذه الازمة ووضع الحلول اللازمة لها. انني اتكلم بقلب محروق وبدون مزاح.
ففي هذا الوقت الذي يبدع فيه المطربون والشعراء والملحنون في تمجيد الحب والترنم بنتائجه،  نجد من ناحية اخرى ان محاكم الطلاق اكثر ازدحاما من البلاجات. والذي يأخذ ورقة طلاقه تراه ينطلق من باب المحكمة هاشا باشا كأنه قبض على دفتر شيكات.
فلهذه الظواهر اسباب عديدة لا حصر لها، لأن الزواج في بلادي غالبا ما يحدث بصورة ارتجالية وعلى شكل تقريق. ولكن من المؤكد ان الزواج الناجح نعمة هابطة “بالمظلات” من السماء، لأن الزواج القائم على اساس مادي، او على اساس الراتب فقط، تكون نهايته سوداء كالفحم الحجري. اما الزواج المبني على الحب والتفاهم والاقتصاد، فهو الزواج المثالي الناجح، ويقضي على الفكرة القائلة بأن خطر الزواج لا يقل عن خطر الماركسية او الفاشستية. فانا مثلا احب فتاة، تشبه الى حد بعيد جواهر لآل نهرو، ولكننا متفاهمان مع بعضنا تمام التفاهم.
وكلما فكرت في راتبها شعرت برغبة ملحة في الزواج. وكلما تذكرت أنفها المقوّس كإشارة الاستفهام المقلوبة، أشتهي الموت، وأشعر بالخطر المحدق بي في المستقبل. ومع ذلك فأنا مصمم على الزواج منها. لأننا قد تعودنا على الصعاب، (مهما كانت متراكمة في سبيل المجتمع) ولن يقف “أنفها” في سبيل سعادتنا الزوجية المقبلة.

“البناء” – 9 أيلول 1959

مسافر زاده السياط!

يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب في إحدى أغانيه الارهابية: فين طريقك فين؟
ويبدو ان جلاد دمشق (عبد الحميد السرّاج) الحبيب أراد أن يجيب على صرخة الموسيقار، ويقول: الى القاهرة… الى القاهرة. وبناء على هذا الاساس الموسيقي سافر الجلاد فجأة، مصحوباً بدعاء الملايين بعدم التوفيق.
ان الدكاترة والمحامين، العمال والصيصان في “الاقليم الشمالي” كلهم يبتهلون الى الله العلي القدير، أن يعرقل مساعي هذا السفاح، أن (تنفس) به الطائرة، أو أن يعطس سائقها في أعالي السماء، ليسقط هذا الغاشم، ويموت في بلاد غريبة قفراء، لا شجر فيها ولا تمر، كرأس أنيس أبي رافع (صحافي قومي وزميل للماغوط في “البناء”) لأن تربة سوريا المؤمنة الخصبة، قد تحوي جثة سعدان أو شمبانزي، ولكنها لن تحوي جثة مجرم، ظل سنوات وهو يسبح في دماء الشعب، كأنه يسبح في “بانيو”.
ان سافر حضرته بالطائرة أو بالحنتور، فهذا شيء من اختصاصه ولا علاقة للمواطنين به. ولكن كل ما نريد قوله في هذه المناسبة، هو أن رؤوس السوريين ليست كتلاً من الملفوف أو الجزر، حتى يحلقها، متى يشاء. كما وأن هناك حقيقة ثانية، لن تقهرها سياط الشعبة الثانية، وهي أن دم السوريين مثل زيت الكورة، لن تزول بقعه بتلك السهولة، التي يتصورها حضرة المسافر فجأة! ان هذه الدماء المبعثرة على أطراف السياط والاحذية وقازانات المياه في أعماق السجون، ليست حبر باركر، تجف خلال لحظات، بل ستظل خالدة كالبرص رمزاً لتحكم بناة المحاشش والكباريهات ببناة التاريخ.
والآن لنمسك بتلابيب الموضوع ونسأل: لماذا يسافر حضرته فجأة الى القاهرة، وقلبه “ينط” من الفزغ؟ حتماً لم يسافر للتداول مع احسان عبد القدوس بشؤون الفكر والقصة القصيرة، ولا للاحتجاج على تقهقر الشعر الحديث في العالم!
بل ذهب ليتفاهم مع عبد الناصر على المستقبل الاسود الذي ينتظره. سيقول له سيدي الرئيس: تحية قومية عربية مرتجفة. ارسلني في أية مهمة الى الخارج، سفير في اميركا، بوسطجي في انكلترا، ولكن لا اريد العودة. لقد وصلتني بعض الانباء، التي تفيد بأن السوريين سيشربون دمي كما يشربون مياه “فيشي”. لقد كنت أنفّذ تعليماتك بحذافيرها. لقد وعدتني يا سيدي بأن تعطيني وسام يوسف العظمة بعد انتهاء الثورة اللبنانية، وها أنا بعد مرور سنة على الثورة لم أحصل حتى على وسام يوسف الخال. ثم نبهت عمي كي أبيد القوميين، آه لقد شيبوني يا سيدي، انهم (ربرايا) ينبتون في كل مكان، ان الاشعاعات الذرية لن تؤثر بهم.
ثم سمعت بأنك ستتخلى عني وعن مشاريعي. انك مخطىء يا سيدي، ان الظلم بالنسبة للجمهورية العربية المتحدة، هو كالكمنجة بالنسبة للموسيقى، وفان غوغ بالنسبة للخياطين، فأين انت ذاهب في خضم القمر والسياسة؟ ثم سمعت عن لسانك بأنك تتعامل مع اولاد – بعد اليوم كيف تقول يا سيدي، ان اكرم الحوراني بعمر جدي، اما انا فسأربي “شوارب” اذا نورت الاحوال. ثم ان الاستاذ اكرم، يرسل لك تحياته مع النسيم العليل، الذي تنشقه من صلنفة حيث كان يتأمل جمال الطبيعة مثل خليل مطران، انه يكاد يختنق من العزلة والوحدة… العربية.
قل اكثر من ذلك ايها المسافر فجأة، ولكن عندما تتحقق امنيات الجماهير وتسقط بك الطائرة، او تنفس فقط، فان الشعب لن يخسر عليك ثمن كفن، بل سيقبرك بالمايوه.

“البناء” – 13 ايلول 1959
1- .2- .
جان دايه

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى