\”الإسلام وأصول الحكم\”… بين القدح والمدح!
د. عمار علي حسن
عرضت في المقال السابق جانباً من المعركة التي أثارها كتاب \”الإسلام وأصول الحكم\” للشيخ علي عبدالرازق، الذي اعتبر أن \”الخلافة\” ليست نظام حكم إسلامياً. وهنا أكمل بعض ما بقي من هذه المعركة، التي ولدها كتاب أثار ضجة عارمة، وتنافست الأقلام حوله، قدحاً ومدحاً، فأحط بعضها من شأن مؤلفه إلى أسفل سافلين، وأعلاه بعضها إلى منزلة راقية من الشجاعة والفهم.
وكان من أوائل من تصدوا للكتاب نقداً وتجريحاً الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في زمن سابق على أيام المعركة، الذي ألف كتاباً وسمه بـ\”حقيقة الإسلام وأصول الحكم\” يربو على أربعمائة وخمسين صفحة، قال فيه: \”ظهر في هذا الزمان كتاب اسمه الإسلام وأصول الحكم، نسب تأليفه إلى الشيخ علي عبدالرازق القاضي بمحكمة المنصورة الشرعية حالا، فاطلعنا عليه، فوجدنا أنه لم يذكر في كتابه هذا رأياً إيجابياً ينسبه لنفسه، ويقيم عليه البرهان، بل كل ما قاله في هذا الكتاب قضايا سالبة، وإنكار محض لما أجمع عليه المسلمون أو نص عليه صريحاً في الكتاب العزيز أو السنة النبوية، مع أن تلك المسائل التي أنكرها وأنكر أدلتها مسائل فقهية شرعية لا يجوز الخوض فيها بمجرد العقل\”.
ويمضي المطيعي مستغربًا أن يصدر هذا الكتاب أصلا، وينكر على مؤلفه مكانته أو دينه أو وظيفته ويعتبر أن الكتاب: \”كفر صريح يجب على قائله أن يتوب منه، ليرجع إلى حظيرة الإسلام\”. بل يقسو في نقده إلى درجة الحديث عن انتحال عبدالرازق للكتاب أو إدعائه أنه المؤلف الحقيقي له، وهنا يقول: \”علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس فيه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط\”.
ثم ينهال على المؤلف بأوصاف لاذعة من قبيل \”الطفل\” و\”الأبله\” و\”أعمى البصيرة\” و\”العابث بالأمن العام\” و\”الساعي في الأرض بالفساد\” و\”الطاعن في الملوك\” و\”المعتدي على الأمة\” و\”الظالم.. المعاند.. الكاذب.. الملحد.. الكافر.. الفاسق\”. ثم يصف كل من يقف إلى جانب عبدالرازق بأنه \”شيوعي، واشتراكي، وملحد\”.
وبعد أن طعن في شخص عبدالرازق راح المطيعي يدافع عن الخلافة، ويصفها بأنها \”أكمل أنواع الحكومات\”، وأنها \”منصب شريف عظيم، ونعمة كبيرة من نعم الله تعالى.. وهي الشبح المخيف الذي لو رآه أشجع رجل في أوروبا، ولو في منامه، لقام فزعاً يرتجف قلبه، وتعلوه رعدة كما ارتعد العصفور بلله القطر، أو كما ارتعد المحموم خالطته البردة\”، ثم يقرر أن نكبات المسلمين قد بدأت حين تخلوا عن الخلافة، ولذا فإنهم بحاجة ماسة إليها في دينهم ودنياهم.
لكن المطيعي لم يقدم حجة دامغة، ولا برهاناً ناصعاً مقنعاً، على دفاعه عن نظام الخلافة، مكتفيًا بالادعاء بأن القرآن الكريم هو الذي أوجبها. وعلى رغم أن القرآن لم يذكر الخلافة لفظاً، فإن المطيعي لا يعنيه هذا، ولا يرى من الضرورة أن يذكر القرآن هذا اللفظ، وأنه يكفينا قول الله سبحانه وتعالى: \”يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم\”. وبالطبع فإن المطيعي لم يلتفت إلى أن الآية الكريمة تقول: \”أولى الأمر منكم\” وليس \”أولى الأمر عليكم\”، وشتان بين \”منكم\” أي باختيارنا و\”عليكم\” أي بفرضهم على الناس فرضاً، بالتغلب.
ولم يقف المطيعي عند هذا الحد بل راح يدافع عن \”الملوك\” ويرفض طلب عبدالرازق بتقييد سلطانهم أو محاسبتهم قائلا: \”..أيريد المؤلف أن يكون الناس في فوضى لا ملك لهم ولا رئيس… أم يريد أن الملك يترك ملكه لمن يعبث به، ويترك أمته لمن يستولي عليها، ويترك عرشه فتتسلط عليه الرعاع وسفلة الناس\”.
من جانبه ذهب الشيخ رشيد رضا إلى أن كتاب عبدالرازق ينطوي على دعوة بل بدعة غاية في الخطورة، لأمرين الأول أن مؤلفه قاضٍ شرعي وعالم أزهري، مما يعزز الالتباس حوله، والثاني أن الكتاب \”هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق لجماعته وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من أحكام شخصية وسياسية ومدنية وجنائية وتجهيل للمسلمين كافة\”. ومع أن رضا لم يكفر المؤلف واكتفى من جانبه بالقول: \”لا نقول في شخص صاحبه شيئاً فحسابه على الله تعالى\”، إلا أنه طالب مشيخة الأزهر \”ألا تسكت عنه… وتعلن حكم الإسلام في كتابه.. حتى لا يقول هو وأنصاره إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه\”. وقد نصح رضا العلماء بألا يضغطوا على الحكومة ليدفعوها إلى اتخاذ إجراء بشأن الكتاب أو صاحبه، لأن في هذا تعظيماً لشأن الكتاب لا يستحقه واعترافاً ضمنياً بالعجز عن الرد عليه.
أما إسماعيل مظهر فقد وصف ما أقدم عليه علي عبدالرازق بأنه \”قد يكون خطأ فاحشاً\” ولم يوافقه على أن \”الخلافة ليست هي نظام الحكم الإسلامي\” لكنه أبدى رفضه لما لحق بالرجل من أذى نتيجة لآرائه، وأنه لا يصح أن يجرد عالم من ألقابه العلمية لمجرد أنه دافع عن فكرة فيها تحمل قدراً من التناقض مع ما يعتقد به أصحاب المدرسة السلفية التقليدية السائدة. ولم يرضَ مظهر في الوقت نفسه عن الملاحظات التي أبدتها اللجنة التي تم تشكيلها لمحاكمة عبدالرازق وفكره، ووصفها بأنها جاءت في الغالب الأعم خارج الموضوع، ورامت إثارة الجدل، وتعقب الأفكار بطريقة فاضحة تنبع من نوايا مبيتة.
وامتدت ردود الأفعال من العلماء والمشايخ إلى الساسة، وباتت أحد مظاهر الصراع بين حزبي \”الوفد\” و\”الأحرار الدستوريين\”، ولهذا قال الزعيم سعد زغلول حين سئل عن رأيه في الكتاب: \”لقد قرأته بإمعان لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب فعجبت أولا كيف يكتب عالم ديني بهذا الأسلوب في مثل هذا الموضوع؟ وقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدة كهذه الحدة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبدالرازق\”.
لكن عباس العقاد، الذي كان في هذه الآونة كاتب \”الوفد\” الأول، خالف زغلول جزئياً، من خلال دفاعه المستميت عن حرية التفكير والتعبير، فكتب مقالا هاجم فيه ما أسماها \”روح الاستبداد في القوانين والآراء\” ودعا إلى احترام حرمة الفكر وعدم إغفال ما للباحثين من حقوق.
أما طه حسين فقد دافع عن عبدالرازق دفاعاً مستميتاً ظاهراً، قائلا: \”لقد تألب رجال في الأزهر -والأزهر شيء والدين شيء آخر- على الرجل فأخرجوه من زمرتهم. أفليس هذا خليقاً بأن يهنأ به علي؟ بلى، وماذا يضر علياً أن يخرج من زمرة علماء الأزهر؟ وماذا ينفع علياً أن يبقى في زمرة علماء الأزهر؟.. إيه أيها الطريد من الأزهر، تعالَ نتحدث ضاحكين عن هذه القصة المضحكة قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر، ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتحريق، وقد كان يلزمنا أن نرى نسخة تجمع في صحن الأزهر أو أمام باب المزينين. دعنا نتحدث في حرية، ولا تكن أزهرياً فقد أخرجت من الأزهر، نعم سنضحك منك ومن كتابك، وسنضحك من الأزهر ومن الذين أخرجوك منه، ماذا قلت في هذا الكتاب؟ قلت إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، فهلا أكملت البحث وأتممت النظرية، فالخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام وإنما هي أصل من أصول الفقه الروماني… سترى أن الخلافة عند المسلمين ليست إلا مناصب الإمبراطورية الرومانية وأن الخليفة ليس إلا إمبراطوراً، وأن مناصب الحكم عند المسلمين ليست إلا مناصب الحكم عند الرومانيين. تعال نضحك فقد كان كتابك مصدراً لتغيير الأرثوذكسية في الإسلام، ولست أنت الذي غيرها أيها الطريد المسكين، وإنما غيّرها الذين طردوك وخرجوك من الأزهر. وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوذكسية الإسلامية\”.
وتتوالى فصول المعركة، وتمتد رحلة المدح والقدح إلى خارج مصر تارة، فينزل إلى غمارها الفقيه التونسي الطاهر بن عاشور وغيره، وهذا ما سنعرضه في المقال المقبل إن شاء الله.
الاتحاد