قضية فلسطين

لماذا فشلت إسرائيل في الاندماج؟

null

باتريك سيل

رغم كافة الاختبارات التي تمكنت إسرائيل من اجتيازها على مدار الستين عاماً الماضية، إلا أنها فشلت في اختبار واحد حاسم، هو الاندماج مع الدول العربية المحيطة بها، والتعايش السلمي معها. ورغم مزاعمها بشأن رغبتها في تحقيق أمنها كغاية تأتي فوق أي اعتبار آخر، إلا أنها رفضت اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الأمن. فكيف يمكن تفسير هذه الأحجية؟

ورغم أن إسرائيل نجحت في توقيع اتفاقيات سلام مع دولتين عربيتين، هما مصر والأردن، وإقامة علاقات غير واضحة المعالم مع دولة أخرى أو دولتين، إلا أنها لم تنجح في إقامة السلام مع الشعوب العربية. على العكس من ذلك، ما زالت إسرائيل تمثل في نظر الجزء الأكبر من الرأي العام العربي، هدفاً للكراهية، ودولة منبوذة، تتعرض شرعيتها للتشكيك في الوقت الراهن أكثر من أي وقت سبق.

ومة ثلاثة أسباب رئيسية لهذه الحالة التعسة التي تجد إسرائيل نفسها فيها حالياً: معاملتها الوحشية للفلسطينيين، وإصرارها على تحقيق التفوق العسكري على دول الشرق الأوسط بأسرها، وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة الأميركية التي تتبع سياسات عدائية للعرب والمسلمين.

وما هو معروف، ترافقت ولادة إسرائيل عام 1947-1948 مع عمليات طرد قسرية لنحو ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من ديارهم وأراضيهم التاريخية. المذابح والجرائم الأخرى التي ارتُكبت في ذلك الوقت، والاستيلاء الواسع النطاق على أراضي الفلسطينيين، وتدمير مجتمع بأكمله… كان يمكن أن تُنسى كلها، وأن يتم التوصل إلى تسوية، لو اعترفت إسرائيل بمسؤوليتها عن خلق مشكلة اللاجئين، وسعت لتعويضهم، وسمحت لبعضهم بالعودة إلى ديارهم.

بي أن الذي حدث بدلاً من ذلك، بدءاً منذ عام 1967 على وجه الخصوص، حيث احتلت إسرائيل الأجزاء المتبقية من فلسطين، هو أن إسرائيل سعت إلى محو فلسطين العربية من الخريطة تماماً، وسعت -وما تزال تسعى- إلى توطين مئات الآلاف من اليهود في الضفة الغربية المحتلة، والقدس الشرقية التي كانت على الدوام مدينة عربية، وهو ما أدى عملياً إلى استبعاد أي إمكانية فعلية لإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة.

وكانت شهوة إسرائيل التي لا تشبع لضم الأراضي، مصحوبة بدرجة صادمة من اللامبالاة بحياة العرب. فإسرائيل التي لم تكتف باحتلال وضم 78% من أرض فلسطين التاريخية، تحاول الآن ضم مزيد من الأرض، لأنها كانت تؤمن بأن مشروعها الخاص ببناء الدولة اليهودية سوف يتعرض لخطر التقويض، وفقدان الشرعية، إذا ما قدمت أي “تنازل” في مجال حقوق الفلسطينيين، أو امتثلت لمطالب الحركة الوطنية الفلسطينية.

وكانت نتيجة هذا العناد المستحكم، والقمع القاسي -في انتهاك صارخ للقانون الدولي- هي دفع الفلسطينيين إلى “التطرف”، وتوصيلهم إلى حافة “اليأس”، بحيث تصبح الخيارات المتاحة أمامهم هي القيام بانتفاضة ثانية، أو شن هجمات “انتحارية”، أو إطلاق صواريخ القسام، أو اندلاع حركات المقاومة الإسلامية مثل حركتي “حماس” و”الجهاد”، واللتين كانت كل منهما نتيجة حتمية للغزو والاحتلال الإسرائيلي.

وهكذا وجدت إسرائيل نفسها أبعد ما تكون عن السلام والأمن، بل وأصبحت محاطة على حدودها بحركات مقاومة راسخة الجذور مصممة على إجبارها على القبول بدرجة من الردع المتبادل، لم تنجح الدول العربية في تحقيقه من قبل.

منذ إنشائها سعت إسرائيل إلى الهيمنة على المنطقة بقوة السلاح. كان هذا هو الأساس الذي بنى عليه “ديفيد بن جوريون” أول رئيس وزراء إسرائيلي كيان الدولة العبرية. فتحت قيادته نجح المجتمع اليهودي في فلسطين، والذي لم يكن عدده يتجاوز 630 ألف نسمة معظمهم من يهود أوروبا، في تحويل نفسه إلى قوة عسكرية هي الأكبر في الشرق الأوسط، وقد كانت لدى كيان الدولة الجديدة القدرة على تحطيم الفلسطينيين، وهزيمة العالم العربي (الضعيف والمقسم والسيئ التنظيم).

وثمة فكرة تجذرت بين قادة إسرائيل وخلاصتها أنه لكي تكون إسرائيل قوية يجب أن يكون العرب ضعفاء، بناء على ذلك سعت إسرائيل لتقويض واحتواء وزعزعة استقرار جيرانها متى وأينما استطاعت. فقد سعت إلى عقد التحالفات مع الدول المحيطة بالعالم العربي، مثل تركيا وإيران الشاه وإثيوبيا… ضد العرب، كما ساندت الأكراد ضد بغداد، ومتمردي جنوب السودان ضد الخرطوم، وأخرجت مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وسعت من خلال الحروب المختلفة لاستقطاب لبنان إلى مدارها واستخدامه كورقة ضد سوريا، وسلحت إيران إبان حربها مع العراق التي استمرت خلال السنوات 1980- 1988.

ولم تقتصر انتصارات إسرائيل على إقامة علاقة خاصة ووثيقة مع الولايات المتحدة -وهي علاقة يلعب فيها يهود أميركا دوراً حيوياً- وإنما امتدت أيضاً للتأثير على سياسة واشنطن في الشرق الأوسط إلى الدرجة التي أصبح فيها “الذيل الإسرائيلي هو الذي يهز الكلب الأميركي” وليس العكس. ومن المؤكد أن الغزو الأميركي للعراق، تم بضغط من “المحافظين الجدد” الموالين لإسرائيل، والمتلهفين لإزالة أي تهديد محتمل ضدها. وهؤلاء “المحافظون الجدد” هم من يقومون حالياً، بتحريض واشنطن على الحرب ضد طهران، بذريعة البرنامج النووي الإيراني.

يتطلب الأمر معجزة وتغيراً جذرياً للسياسة من جانب إسرائيل إذا ما أرادت أن تعيش في سلام مع المنطقة. إن تحقيق ذلك يتطلب منها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في فلسطين وسوريا ولبنان، والقبول بتوازن القوة مع جيرانها بدلاً من السعي دوماً لتحقيق الهيمنة والسيطرة عليهم، والتوقف عن تحريض الولايات المتحدة والعالم الغربي بأسره ضد العرب والإسلام.

بحالتها الحالية، تبدو إسرائيل وكأنها بحاجة إلى ستة عقود أخرى حتى تدرك أن أمن الشرق الأوسط غير قابل للتجزئة، وأن أمنها لا يمكن تحقيقه على حساب أمن جيرانها.


جريدة الاتحاد


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى