قضية فلسطين

التوطين؟ ربما. لكن ليس في لبنان

null

صقر ابو فخر

«أَلقوا معاناتكم خلف ظهوركم ودعوا تشيلي تُعِد إليكم اطمئنانكم». هذه العبارة الجارحة والمتسربلة بالاحسان قالها فيليب هاربو نائب وزير الداخلية في جمهورية تشيلي وهو يستقبل 39 لاجئاً فلسطينياً وصلوا من مخيم «التنف» على الحدود السورية ـ العراقية إلى مدينة «لاكاليرا» الزراعية في 6/4/,2008 بعدما امتنعت معظم الدول العربية عن استقبالهم، ولم يعثروا على مكان يؤويهم غير تشيلي التي تبعد 40 ساعة سفر من بلاد الشام والنهرين.

يشبه كلام فيليب هاربو هذا، كلام الرئيس بشارة الخوري الذي استقبل في سنة 1948 طوابير اللاجئين الفلسطينيين بقوله: «ادخلوا بلدكم لبنان»، ويشبه أيضا كلام وزير الخارجية حميد فرنجية الذي رحب بهم قائلاً: «سنستقبل اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم، ومهما طالت إقامتهم، ولا يمكننا أن نحجز عنهم شيئا، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا. وما يُصبنا يُصبهم، وسنقتسم في ما بيننا وبينهم آخر لقمة من الخبز». لكن الأمور لم تجر على هذا المنوال. فلم تكد تنقضي أسابيع محدودة حتى كان الفلسطينيون يرغمون على مغادرة القرى الحدودية بذريعة الأمن. ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً خضع الفلسطينيون في لبنان لشروط مهينة، فانتظروا خمس سنوات متواصلة من العيش في العراء تقريبا، أي في الخيمة، حتى سُمح لهم بأن يضعوا ألواح الزينكو فوق رؤوسهم، وانتظروا أعواما أخرى حتى سُمح لهم بأن يبنوا جدارا في محيط خيمتهم على ألا يعلو أكثر من مترين، فصار في إمكان الواحد منهم ان يسند ظهره، وانتظروا حتى سنة 1969 ليتمردوا وينتزعوا إمكان العيش في منزل ذي سقف من الباطون. وبين سياط المكتب الثاني وشتائم الدرك تدرّب الفلسطينيون على الصمود في الشدائد والعيش في المصاعب واحتمال الكراهية في بعض الأحيان.

تهجير لا توطين

من مصاعب هذه الأيام ومصائبها، عودة حكاية التوطين الى الكباش المحلي اللبناني، هذه الحكاية التي ما برحت أطراف سياسية كثيرة في لبنان تتغرغر بها كلما رغبت في امتلاك أداة دعائية لمقارعة خصومها المحليين. ولا ريب في ان فكرة التوطين تتغذى على تصريحات الساسة الاسرائيليين والأميركيين، وآخرها دعوة الرئيس جورج بوش في 10/1/2008 الى تعويض اللاجئين وعدم تنفيذ حق العودة بموجب القرار .194 والتوليد المنطقي لهذه الدعوة يقول ان عدم تنفيذ حق العودة يعني، بالضرورة، التوطين.

هذا صحيح الى حد ما. لكن لنقارب المسألة بطريقة أكثر دقة. فالفلسطينيون موجودون في لبنان كأمر واقع، أي كوجود قسري. وهم في التوصيف القانوني «لاجئون»، أي أن وجودهم موقت. أما التوطين فيقصد به تحويل هؤلاء اللاجئين من لاجئين، مقيمين وموقتين، الى مواطنين، أي منحهم شكلا من أشكال المواطَنة التي ستكتسي، في ما بعد، صيغة قانونية ما كالاقامة الدائمة او الجنسية.

إن الأمور لا تجري على هذا النحو البتة في لبنان لســبب بســيط، هو ان التــوطين لا يمكن أن يصبح أمرا واقعــا إلا في حال التوصل الى حل ما، مكفول دوليا، لمشــكلة اللاجئــين بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حل يستطيع الطرفان ان يدعيا أنهما حققا صيغة وسط بين رفض اسرائــيل فكرة عودة اللاجئــين، وبين إصــرار الفلســطينيين على هــذا الحـق ولو بصورة مــعدلة. أي أن التــوطين هــو النتيجة المباشــرة لعـدم تطبيق حــق العـــودة. غير أن الصراع الفلسطيني ـ الاســرائيلي، كما هو واضح، لا يبدو أنه يتجه نحو الحلول، بل يشــير الى استعصاء أي جهد سياسي على الوصول الى حل. وهذا ما ظهر جليا بعد اتفــاق أوسلــو، فجميع الحلول السياسية التي عُرضــت في كامــب دايفيد الثانية وفي خريطة الطريق وفي شرم الشيخ اصطدمت بنقطتــين همــا: اللاجئون والقدس، وهما نقطتان قاتلتان للحلول كلها.

لا حل سياسيا للمسألة الفلسطينية في المدى المنظور. هذا أمر يقارب البدهية. إذاً، تبقى الأمور على ما هي عليه، فلا توطين ولا عودة، بل هجرة فلسطينية متمادية الى دول العالم المختلفة، الأمر الذي يعني، في الحقيقة، توطينا، لكن في دولة ثالثة. وأبعد من ذلك، فحتى لو تم التوصل الى حل ما لمشكلة اللاجئين، وكان هذا الحل يتضمن بالفعل التوطيـن، أكان ذلك تصريحا أم تلميحا، فإن التوطين سيقــع، بالضــرورة، في الأردن مثلا او في ســوريا، لكنه لن يطال اللاجئين في لبنان، لأن هؤلاء مرصـودون للتهجير، أي للانتقال الى دول جديدة والى مهاجر متناثرة. فاللاجئون في الأردن مواطنون أردنيون منذ زمن بعيد، وعليهم، في حال التوصل الى حل ما، ان يحسمـوا أمر مواطنتهم، فإما ان يختاروا المواطنة الأردنية، فتبقى الحال على ما هي عليه، او ان يختاروا المواطنة الفلسطينية فيُبنى على الشيء مقتضاه. واللاجئون في سوريا ليسوا عبئا على المجتمع السوري، فهم مندمجون فيه ويتمتعون بحقوق المواطنة كاملة ما عدا الجنسية وحق انتخاب المجالس التشريعية. أما في لبنان، حيث يروّج الكثيرون ان اللاجئين عبء جدي على المجتمع اللبناني، فالمتوقع ان يغادر هؤلاء اللاجئون، بموجب أي حل دولي او من دونه لينتشروا، بالتــدريج، في دول العالم. وهذا المصير ليس من بــاب التمرين الذهني، بل من باب الخطط السياسية الواقعية. فما دام اللبنانيون ضد التوطين، وما دام الفلسطينيون ضد التوطين، وما دام الدستــور اللبـناني ضد التوطين، وما دامت دول العالم الكبرى تؤكد، صبح مساء، ان أي حل لمشكلة اللاجئين لن يكون على حساب لبنان، فأين المشكلة إذاً؟ المشكلة، بحسب اعتقادي، تكمن في عقول السياسيين المحليين، بالدرجة الأولى.

دونكم ما هو آت

بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في لبنان حتى نهاية سنة 2007 نحو 426 الف لاجئ بحسب قيود وكالة الاونروا. لكن المقيمين الفعليين على الأراضي اللبنانية لا يزيدون، البتة، على 200 ألف لاجئ. أين ذهب الباقون إذاً؟

إن الأرقام تقول ان نحو مئة ألف فلسطيني جرى تجنيسهم في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (المقصود المسيحيون الفلسطينيون) وفي التسعينيات (المقصود الشيعة الفلسطينيون من أهالي القرى السبع) علاوة على أعداد غير محددة تماما من رجال الأعمال والأثرياء السنة وغيرهم. وهؤلاء مع ان التجنس لا يُسقط عنهم حق العودة قط، أصبحوا لبنانيين قانونا. وهناك أكثر من مئة الف فلسطيني هاجر نهائيا من لبنان منذ بداية الحرب الأهلية في سنة 1975 فصاعدا. وأولئك اكتسب معظمهم جنسيات البلدان التي لجأوا اليها واستوطنوها. إذاً، لم يبق على الأرض اللبنانية إلا نحو 200 الف فلسطيني فقط، وهذا يخالف الأرقام التهويلية التي تنشرها جهات سياسية معلومة. وفي أي حل دولي (وهذا بالفعل نوع من الاحتمال البعيد) فإن كندا، على سبيل المثال، ستكون مستعدة لاستقبال نحو 75 ألف لاجئ من لبنان، وستكون أوستراليا أيضا جاهزة لاستقبال 50 ألفا آخرين، وستتوزع البقية ما بين أراضي السلطة الفلسطينية ودول أخرى تحت راية لم الشمل.

بهذا المعنى، بل بهذا التصور القريب من الواقع، واستنادا الى الخطط التي وضعتها جهات كندية شبه رسمية (كندا هي رئيسة اللجنة المتعددة الطرف الخاصة باللاجئين المنبثقة من مؤتمر مدريد) فلن يبقى فلسطيني في لبنان خلال خمس سنوات ما ان تفتح أبواب الهجرة أمامهم. فعلام يتخوف الخائفون من التوطين؟ وللتذكير فقط، فإن النائبة الأميركية عن ولاية فلوريدا إليانا روز ليتنين (صاحبة قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان) هي التي اقترحت توطين الفلسطينيين في لبنان («النهار»، 6/1/2003) ثم عادت وأهملت مشروعها هذا. أما رئيس الوزراء الكندي السابق جان كريستيان فأعلن في سنة 2000 ان كندا مستعدة لاستقبال 75 ألف لاجئ من لبنان بمعدل 15 ألفا سنويا. وكشفت النائبة الكندية كارولين بيرش في ندوة عقدتها في دمشق في 18/4/2005 أنها ستعمل على توطين آلاف الفلسطينيين المقيمين في لبنان في كندا.

[[[

في التسعينيات من القرن العشرين راجت حكاية توطين الفلسطينيين في العراق. وجاءت الوقائع لتجعل الفلسطينيين هناك مشردين مجددا في بقاع العالم القصية، من الهند الى تشيلي. واليوم، يروج الكثيرون حكاية التوطين في لبنان، والنتيجة الأولية هي المزيد من الكراهية للفلسطينيين، كأنهم هم الذين يرغبون في التوطين. أما الوقائع المقبلة فربما تحمل معها التوطين حقا. لكن، هذه المرة، في بلدان جديدة، لا في لبنان على الاطلاق.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى