إشكالية التحرر الداخلي
معتز حيسو
((صرخة الحياة الأولى تلجم برباط يلف حول الجسد …. ))
تمثل قضية الإنعتاق الداخلي عند الفرد رغم تباين تجلياتها نسبياً، أحد الإشكاليات الاجتماعية الأساسية، كونها قضية تمس على المستوى الخاص جوهر البنية الذاتية للفرد، وعلى المستوى العام تؤثر في التركيبة الجوانية للمجتمع، ولهذا فإنها تمثل قضية إشكالية يعاني منها الإنسان بشكل عام . ويشكل البحث في قضية التحرر الإنساني على المستوى الداخلي بشكليه الفردي والعام إشكالية يمكن أن تصل لدرجة الاستعصاء نتيجة تشابك وتعقد مستويات البحث، إذ من الصعوبة بمكان فك عرى ترابط عناصره ومستوياته، و تشكل قضية التحرر الداخلي للفرد بكونها نقيض القمع الداخلي المؤسس على مفاعيل ثقافية، تربوية،سيكولوجية، سوسيولوجية، سياسية، اقتصادية، أحد أهم المستويات والتجليات المرتبطة بالفرد والمعبّرة عن مكنوناته الداخلية التي هي بدورها تعبيراً موضوعياً عن تجليات الواقع الاجتماعي العام بكامل تفاصيله وتجلياته المباشرة وغير المباشرة، لذلك فإنها تشكّل في اللحظة الراهنة ساحة اشتغال على درجة من الأهمية، كونها تشكل نقطة تحول وانعطاف في سيرورة التطور الفردي والعام في حال تم بحثها والاشتغال على تجاوزها وفق أشكال موضوعية وعلمية، إذ من الصعوبة بمكان أن يكون بمقدور الفرد / الإنسان المقيد أو المقموع داخلياً لأسباب تتعلق بأسباب موضوعية مذوته، وأخرى تشكلت بكونها تجليات لسياق واقع اجتماعي عام الاشتغال على فهم وإدراك وتجاوز تناقضات الواقع الموضوعي الراهن … وتشكل أسباب و مفاعيل القمع الداخلي في عمقها التاريخي الممتد والمتحكم حتى اللحظة الراهنة أحد، أهم المعيقات لأشكال ومستويات التطور والارتقاء الإنساني، ومن المفارقات أن تشكل هذه المفاعيل في بعدها وعمقها التاريخي التي ترسّخ وتؤسس لأشكال قمع داخلي متباين في أشكال ومستويات تجلياته أحد الأشكال الأساسية لمستويات وأشكال التفكير والإدراك على المستويات الثقافية والتربوية والسياسية.. أي أنها ما زالت تمسك بتلابيب أشكال وأنماط التفكير والممارسة بمستوياته الفردية والعامة.
إن المدخل الأساس لدراسة التحرر الداخلي وتحديد أسبابه، وبالتالي الاشتغال على القبض على المخارج التي تمكّن من تجاوز إشكاليات القمع الداخلي وتمكين الفرد من طاقاته الداخلية وقدراته بعد تجاوز المعيقات والكوابح الذاتية والاجتماعية العامة السياسية والثقافية …. يتجلى من خلال تحديد عوامل القمع الداخلي الذاتي المتحدد بفعل عوامل موضوعية عامة تتجلى وفق أشكال وأنماط ثقافية تعبر عن مختلف أشكال الوعي الاجتماعي، كما أنه يمكننا القبض على العوامل المحددة للقمع الداخلي من خلال قراءة وتحديد انعكاس الشكل المسيطر لنّمط الاقتصادي المهيمن على المستوى الاجتماعي، تحديد أنماط وأشكال السلط السياسية التي تجسد وتكرس منظومة ثقافية و وعي اجتماعي يعبّر بذات اللحظة عن ميلها الأيديولوجي العام والأساسي الذي يعتمد في لحظات ومراحل تاريخية على الموروث الديني الذي يشكل القاع المعرفي والثقافي والقيمي المجتمعي، لكن أشكال توظيف واستخدام المنظومة الثقافية الدينية من قبل السلط السياسية يتحدد بكونه يهدف إلى دعم استمرار استقرارها وفق أشكال تتنافى في بعض اللحظات مع تجليات التدين الشعبي.
إن تحديدنا المبدئي والأولي العام لأسباب القمع الذاتي يفترض منا تحديداً دقيقاً لكيفية تطور القمع الذاتي عند الفرد، والذي يمكن أن يتجلى بأشكال ومستويات مختلفة ومتباينة، نتيجة لعوامل سيكولوجية وسيسولوجية وبيولوجية واجتماعية وسياسية وثقافية … ويمكن أن تكون الأشكال والآليات التي تمارسها السلط السياسية في سياق تكريس أشكال من الوعي والثقافة المجتمعية المدخل الأساس لتحديد أسباب وتجليات ظواهر القمع الذاتي المتحدد بفعل عوامل موضوعية تتحول في سياق التقادم الزمني إلى بنية ثقافية ذاتية ،جوانية/ داخلية تعبّر عن ذات الفرد،مما يعني صعوبة تجاوزها ذاتياً، مما يستوجب التركيز على إعادة بناء منظومة ثقافية تًجُبْ وتستغرق ما هو سائد ثقافياً وفق أنماط وأشكال من التفكير والإدراك الذي يعتمد في مكوناته البنيوية على تمكين الفرد من إنسانيته، أي إعادة الإنسان لإنسانيته المفقودة والمستلبة بفعل عوامل الاغتراب والاستلاب والقمع المنافية والمناقضة لطبيعة التكوين الإنساني البدئي .
بالتالي فإن سيادة أشكال تربية أسروية تقوم على التسلط والقمع ومصادرة الحرية، تعتبر أقصر الطرق لتحطيم الفرد والمجتمع، و تشكل التربية الأسرية بشكل عام صورة مصغرة عن المجتمع، بكونها أحد مكوناته وخلاياه الأولية والأساسية المعبّرة موضوعياً عن تجليات الميول الاجتماعية العامة والأساسية ، وبنفس الوقت تعبر عن تجلياته وتمظهراته اليومية الملموسة والمتعينة. وينتقل التسلط إلى الأبناء الذين يميلون إلى تمثّل أنماط السلطة التي يمارسها الأبوين، ويكتسبون منها معظم أدوارهم الخاصة بالسلطة، وتتمثل السلطوية بكونها النقيض الرئيس اللدود للتربية القائمة على التحرر والإنعتاق، لتتجلى أبرز وأهم مظاهر التسلط في التعليم والتربية، ومن أهم السلبيات التي تنتج عن السلطوية الأسرية: تنمية النزعة الفردية، فرض الخضوع وزرع الخوف و الشعور بالضعف والذنب والعجز وعدم الثقة بالنفس، مما يؤدي إلى انطواء الفرد وانزوائه وانسحابه من ميدان الحياة الاجتماعية،صعوبة تكوين شخصية مستقلة، إضعاف قدرة الفرد على التعبير عن النفس، كره السلطة بشكل عام وسلطة الوالدين بشكل خاص. وتتعين الأشكال السلطوية السائدة في كافة المؤسسات الاجتماعية، وتحديداً الرسمية منها، كونها تتشكل في رحم المجتمع السياسي والمدني بوصفها تعبيراً فوقياً عن المجتمع المتمثل بكونه مجموعة من المنظومات الثقافية والقيمية، وبكونها أيضاً تعيناً موضوعياً مذوتاً لأشكال اقتصادية معبرة بأشكال متباينة نسبياً عن نمط اقتصادي مهيمن بأدوات وأشكال سياسية مسيطرة، فالمجتمع الحر يفرز تربية حرة، بينما المجتمع الذي يطغى عليه التسلط فغالباً ما ينتج تربية تعمل على تقييد عقول الأفراد وكبت الحريات وتكبيل التفكير والإبداع. ويمكننا أن نلاحظ بأن التوجه أو الاعتقاد الديني القائم على الخضوع الأعمى والقمع الغيبي يخفف من حدة انعكاس القمع السياسي عند الفرد، ويساهم بذات اللحظة في لجم وقمع حرية التفكير، أما تحرر الفرد من سلطة الفكر الديني الغيبي القائم على استبعاد الفرد عن ساحة الاشتغال الاجتماعي والسياسي، فإن تجليات القمع السياسي ونتائجه على الذات الفردية تتجلى بأشد صورها مأساوية.ويجب التنويه في هذا السياق بأن سلطة القمع في النص الديني ليست مقبولة عند المؤمن فقط، بل ومرغوب بها، و تساهم في قبول وتحمل القمع السياسي، ومن البداهات بأن التربية التي تعتمد الانعتاق والتحرر والديمقراطية لا تتحقق إلا في المجتمعات الديمقراطية والحرة.
إن التعامل مع الفرد ابتداءً من البيت مروراً بالمدرسة وانتهاءً بالجامعة وصولاً لسائر المؤسسات الاجتماعية يتم غالباً بطريقة سلطوية، جامدة، أوامرية، تأسست في سياقها الأجيال على الطاعة و الانصياع .. مشكلة الأساس الموضوعي لظاهرة التلقي التي تشكل أحد أشكال التواصل الاجتماعي القائم على تغييب النقاش والإقناع الذي يعتمد على أسس التكافؤ والتفاعل ..ولكون المؤسسة التعليمية أحد أهم المؤسسات الرسمية التي من خلالها يتم تشكيل وصياغة العقل الجمعي المؤدلج وفق منهجية سلطوية سائدة تتعزز نتيجة خضوع الجامعة لسلطة الدولة، إضافة إلى عدم وضوح دورها، ويمكننا أن نلاحظ بأن طرق التدريس و أساليب نقل المعرفة والخبرة ومضامين المنهاج إلى المتعلمين، تمثل سمات السلطوية (قلة أهمية الإقناع والمكافأة والتركيز على العقاب الجسدي و التلقين التي تحول الفرد لبنك معلومات ينحصر فيه دور الطالب على الحفظ والتخزين والاستذكار دون وعي أو إبداع وتقديم هذه المعلومات لحظة الامتحان ونسيانها لاحقاً، إذ تشكل المناهج الدراسية كماً من المعلومات ليست لها أية علاقة بالواقع الاجتماعي للطالب). ويمكننا التأكيد بأن التلقين والعقاب كليهما يعتمدان على مفهوم التسلط لتكريس إخضاع المتعلم وزيادة حدة تبعيته. وتبرز النتائج السلبية السلطوية للتلقين في : الترديد والحفظ والامتثال و الاستظهار بدل البحث والتجريب والفهم والنقد، الإتكالية والسلبية، ضعف القدرة على الفهم والتحليل، إهمال حاجيات الطالب واهتماماته الفردية، سيادة الشعور بالملل الذي لا يوفر الجانب العملي التطبيقية أو الخبرة الحسية للطالب ….
ــ أسباب ضعف الحرية الأكاديمية: الأسباب السياسية: يتأثر مدى الحرية الأكاديمية في المجتمع بالواقع السياسي، فإذا كان الوضع السياسي يتميز بالحرية والاستقرار ويقوم على العدالة والمساواة ويعتمد على المشاركة والتفاعل فإن تعمق الحرية الأكاديمية وتجذرها يصبح عاملاً ملموساً وفق أشكال موضوعية، أما إذا كان المجتمع يعاني القمع والكبت والحرمان ومصادرة الحقوق في المجال السياسي فإن ضمور الحرية الأكاديمية وضعفها يصبحان شبه مؤكدين .
الأسباب التاريخية:نشأت الجامعات العربية بمبادرة من الطبقات الأساسية الحاكمة ، فكانت وما زالت تعبيراً أيديولوجياً عنها. بالتالي فإن السلط السياسية تقبل الحرية الأكاديمية أو تغمض عينها عنها ما دامت تسير وتعمل في الإطار الذي لا يهدد استمرارها واستقرارها … ويتقاطع هذا مع خضوع الدول العربية للاستعمار الذي عمل جاهداً على تكريس التمييز الاجتماعي والتربوي والتعليمي وحرمان الغالبية من حقوقها والتركيز على زيادة معدلات النهب.
الأسباب الاجتماعية : الحرية الأكاديمية تعبير موضوعي عن الحرية الاجتماعية العامة، وبما أن المجتمعات العربية تخضع لجملة من القيود مما يجعل العلاقات الاجتماعية تسلطية/ أسلوب التنشئة الاجتماعية في الأسرة مروراً بأنماط التربية المدرسية والأشكال والأساليب الإعلامية وأساليب التنشئة السياسية تكرس التسلط وتروج له، و لكون الأسرة تمثل في خصائصها صورة مصغرة عن المجتمع ، فإنها تستند في استقرارها على قيم التسلط والقمع والتبعية، والنظام التعليمي الذي يعيش في وسط اجتماعي بعيد عن جو الحرية يعمل على تعزيز السلطة واستبعاد البحث والتساؤل .. كما أنه يعمل على تعطيل الإبداع وتكوين أنماط جامدة…/ لذلك فإن غياب الحرية السياسية وبالتالي الحرية في الأوساط الاجتماعية يشكل عائقاً أمام نمو الحرية الأكاديمية،لأن الكبت الفكري الذي يمارس في البيت و المدرسة تصل آثاره إلى الجامعة كونها تتوسط الرحم الاجتماعي فهي موضوعياً تتأثر وتؤثر به.
أسباب التمييز التربوي الاقتصادية والاجتماعية:يتميز المجتمع العربي بشكل عام بكونه ذو تركيب طبقي هرمي تتزايد فيه حدة التباينات والتناقضات الطبقية والاجتماعية التي تترافق مع بطء عملية الحراك الاجتماعي وانخفاض معدلات التنمية البشرية الاجتماعية، والاقتصادية، وبالتالي تزايد معدلات الفقر… وينعكس هذا على نمط وأشكال التربية موضوعياً.
أسباب سياسية:تتشكل النظم التربوية وفقاً للنظم السياسية، فالنظام السياسي الديمقراطي القائم على العدالة والمساواة وإطلاق الحريات السياسية والمدنية غالباً ما ينتج مجتمعاً حراً وفرداً متحرراً من العقد و يكرس نظاماً تربوياً ذو كفاءة عالية يقوم على تكافؤ الفرص ويعزز قيمة الإبداع والبحث … أما النظام السياسي القائم على القمع والاحتكار والحرمان …فإنه ينتج نظاماً تربوياً يقوم على التمييز والتلقين … وبنفس الوقت يكرس نظام تربوي أسروي متخلف يقوم على الكبت والقمع والتمييز الجنسي و….
أسباب تعليمية : نقص المدارس وبعدها عن مناطق السكن ، افتقار المدارس للتجهيزات الأساسية ، عدم تحقيق المناهج الدراسية للحاجات الأساسية للفرد وتحديداً لسكان البادية والريف. نقص الوسائل التعليمية، اعتقاد الآباء بأن المدرسة تغير مفاهيم وسلوك الأبناء النابعة من التقاليد التي يتشبث فيها الآباء . الشك في جدوى التعليم .
نتائج عامة لتجليات ميول الاقتصاد السياسي على المستوى التربوي والتعليمي :
ـــ إعادة إنتاج التمييز في المجتمع، زيادة التسرب، تحديد نسب النجاح وفق أشكال وآليات تساهم في تدني وتراجع مستويات العملية التربوية وتدني مستويات العلمية والبحثية، ويؤدي أيضاً إلى التناقض بين معدلات النجاح والقدرة الاستيعابية للمعاهد والجامعات التي تحددها الجهات المسؤولة وفق سياسات ارتجالية غير مدروسة، مما يزيد من ارتفاع معدلات البطالة بكافة أشكالها، وهذا بحد بذاته يساهم في تهديد الأمن الاجتماعي، الشعور بالتمييز والدونية بين الريف والمدينة وبين الذكور والإناث وبين الفقراء والأغنياء ………
ــ التسليع التربوي:/ مظاهره الدروس الخصوصية،التعليم الخاص،تحول الكتاب الدراسي والمناهج إلى أشكال سلعية.تحول البحث التربوي إلى مصدر للربح .
ويرتبط التسليع التربوي مع: شكل الاقتصاد السياسي السائد والذي ينحو باتجاه الخصخصة وتكريس السوق الحر. والمستويات الثقافية التي يمكن في إطارها التأكيد على أن التربية تنبت وتنمو في المجتمع الذي هي تعبير عن ثقافته السائدة والذي بات في الآونة الأخيرة يكرس ثقافة التفريد والتشتت الاجتماعي. وترتبط التربية بالسياسة التي تعتبر المصدر التربوي المحدد لشكل المناهج و مضمونها الاجتماعي، وتستمد العملية التربوية كثيراً من مقوماتها من المجتمع المتعين، لذلك فإن لقضية التسليع التربوي جذور اجتماعية، فكثير من الدول العربية تتميز بالتفكك الاجتماعي وتغييب المواطنة وضعف الحس بالمسؤولية . وسيادة مبدأ الولاء والاستزلام والتبعية والفساد و انتشار الفلسفة البراغماتية بأشكال ومستويات شكلانية ومبتذلة من خلال العمل على تكريس الفلسفة الفردانية والمنافع الذاتية والنظر إلى المنظومة القيميّة بكونها سلع تتحدد قيمتها بمستوى منفعتها المادية، كذلك تأثير العولمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً و مفاهيمياً على المستويات الفردية والمجتمعية .
اللفظية والماضوية : إن اللفظية هي استخدام كلمات رنانة فارغة من المضمون وعلى حساب المعنى والممارسة، شيوع اللفظية القهرية، واللفظية ترتبط بالثقافة الاجتماعية القائمة على عدم ربط الكلام بالفعل وتمتد جذورها إلى أصول فلسفية مثالية ذاتية ترتبط بسيادة علاقات إنتاج زراعية ورعوية تنتج علاقات اجتماعية تركز على النشاط اللساني بسبب انحسار وقت العمل بمواسم وأوقات والذي يقترن بعدم تقدير أهمية الزمن.
ــ تتمثل السلطوية على المستوى اللفظي: تحول التربية من أفعال إلى أقوال، ومن سلوكيات عملية حية إلى تنظير منفصل عن الواقع، ومن التركيز على الجوهر إلى الاهتمام بالشكل، ويتقاطع هذا مع مستويات وأشكال سياسية تغلّب القول والشعارات والتنظير غير المرتبط بالواقع على الممارسة والعمل الهادف لزيادة الإنتاجية. واستخدام الترويض الفكري والإذعان والقهر، وتوظيف النظام التعليمي لتأبيد استمرا ر النظام السياسي وضمان استقراره من خلال المناهج التربوية السائدة ويرتبط هذا المستوى تاريخياً مع أساليب التسلط والضبط والتلقين والحفظ، ويحقق اللجوء للماضي بأشكال نكوصية وارتكاسية راحة نفسية لفرد فقد ارتباطه بالحاضر وفقد الأمان والأمل بالمستقبل. إن فرض انسحاب الفرد من حياته وحاضره ومستقبله إلى الماضي صورة من صور التسلط التي تضعف شعور الالتزام بالعمل والاجتهاد والممارسة، وتساهم في تدني الإنتاجية، وتحل محلها ثقافة القول غير المسنود بالفعل،والشعار البعيد عن الواقع، واجترار الألفاظ بدلاً من ترجمتها إلى منجزات. وتتجسد الماضوية من خلال عدم ارتباط الفرد بحاضره وعدم ارتباط المناهج الدراسية بالواقع ليعيش حبيس الماضي ويعيد إنتاج الحاضر وفق أشكال ماضوية، وينظر للحاضر والمستقبل بعيون الماضي مكرساً منظومات قيمية واجتماعية عفا الدهر عنها، إضافة لكونها تكرس مفاهيم وقيم سلطوية.ولذلك نرى بأن التركيز على الفكر النقدي وثقافة الحوار والبحث العلمي والتحليل والإبداع والمشاركة ضرورة يجب العمل على تكريسها على كافة المستويات الاجتماعية.
*نتائج السلطوية : ــ إعادة إنتاج التسلط وتنميته من خلال عمل المؤسسات الرسمية وتحديداً التربوية.
ــ تسهيل التغريب الثقافي والتربوي جراء إنتاج أجيالٍ ضعيفة ومحبطة لا تقوى على مواجهة المشكلات والتحديات الراهنة، فالشخصية التي تبنى في مناخ التسلط والمنع والقمع والكبت السلطوي تتميز بالطاعة ، الخضوع، التسليم، الاستسلام، الارتهان ، بعيداً عن روح الحوار الديمقراطي المتكافئ و الندي، تراجع المستوى الثقافي و البحث العلمي وانخفاض معدلات الإنفاق عليه( حصة الفرد في العالم العربي من الإنفاق على التعليم لعام 1993 /116 دولار بينما كانت في عام / 1987 / 134 دولار /على المستوى العالمي / 221 دولار / بينما بلغت حصة الفرد في الدول المتقدمة 1089 دولار) وهذا يساهم في تكريس التبعية والاستسلام للغزو الثقافي وما يفرضه علينا جراء تقدمه وتطوره في كافة المجالات والمستويات، مما يشكل خرقاً للمنظومة القيمية والثقافية، وتهديداً واضحاً لدعاة المحافظة والدفاع عن التراث والثقافة الوطنية، ويؤدي أيضاً إلى زيادة حدة اغتراب الإنسان عن واقعه، و يتقاطع هذا مع ضعف معدلات التنمية وتراجعها، مما يزيد من حدة التخلف والتبعية والخضوع الاقتصادي والارتهان السياسي إلى الدول الرأسمالية المركزية.
زيادة مستوى الاغتراب : العزلة الاجتماعية، انفصال نفسي روحي ثقافي اجتماعي سياسي ،الشعور بالعجز وعدم القدرة على التوازن والتفاعل الاجتماعي، والذي يتجلى من خلال غياب القدرة على الاختيار، سيادة القهر،الاستلاب،الخضوع، الاستسلام، غياب المعنى للحياة والأمل في المستقبل، غياب المعايير والقيم الاجتماعية وميل المجتمع نحو الانحلال والتحلل المعياري والمنظومي والقيمي.
الغربة عن الذات: ويكرس هذه الحالة التركيز على الفردية، اعتبار معظم الخدمات التي تقدمها الدولة منحة من الحكومة، تزييف وعي المواطن، احتواء المؤسسات الرسمية، احتكار القرار الرسمي بكافة مستوياته السياسية والاقتصادية. ومن نتائج الاغتراب: ضعف مستوى التحصيل العلمي، تنامي الروح السلبية و تراجع حس المشاركة والتفاعل الاجتماعي، تزايد ظاهرة الهجرة،الإذعان، التمرد بأشكاله السلبية التي تفتقد للمعايير والقيم الأخلاقية، تنامي معدلات الإشكاليات والمشاكل النفسية والاجتماعية،إعاقة الإبداع.
في نهاية هذا النص ننوه بأن ما أوردناه، لا يعبّر عن كافة أسباب وتجليات عوامل أزمة التحرر الداخلي عند الفرد، كونها تشكل أحد الإشكاليات الكبرى التي يحتاج بحثها والتصدي لها، إلى ورش عمل ثقافية وأكاديمية، وبنفس السوية تحتاج لتجاوزها جهوداً اجتماعية مدنية وسياسية مكثفة وموسعة، وهذا العمل يأتي في سياق الاشتغال على تجاوز أسباب وعوامل القمع الموضوعي الذي تحوّل بفعل عوامل وأسباب موضوعية وذاتية إلى نمط من أشكال التركيبة البنيوية للفرد، ليصار في سياقه إلى تكريس منظومة ثقافية علمانية تساهم في تطوير بنى المجتمع وتحرير الفرد من أسباب قمعه الداخلي، التي يأتي في مقدمتها القمع السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والاغتراب عن المجتمع والذات وعوامل الإنتاج، هيمنة الفكر الظلامي المؤدلج…..
تنويه: اعتمدنا في إنجاز هذا النص على كتاب السلطوية في التربية العربية للدكتور يزيد عيسى السروطي ، نشر هذا الكتاب في مجلة عالم المعرفة في عددها / 362/ .