هل تكمل تركيا الحديثة نظامها الجمهوري بدمقرطة حياتها السياسية والثقافية؟
بكر صدقي *
عرضت إحدى المحطات التلفزيونية الخاصة، أواخر شهر آب (أغسطس)، برنامجاً وثائقياً عن تاريخ المشكلة الكردية في تركيا، حلّلت فيه تعامل تركيا الجمهورية مع مواطنيها الأكراد منذ عشرينات القرن الماضي إلى اليوم، في إطار النقاش المجتمعي الواسع الدائر هذه الأيام حول سبل حل المشكلة هذه حلاً سلمياً. وإذا كانت الوقائع التاريخية التي سردها البرنامج التلفزيوني كمشاريع التتريك التي حاولت الحكومات التركية وضعها موضع التنفيذ، والقمع الدموي للتمردات الكردية المتعاقبة، وتهجير السكان الأكراد إلى المناطق الغربية من البلاد بعد إحراق آلاف القرى، وغيرها من السياسات الشوفينية، معروفة من قبل بعض النخب الثقافية التركية، فهي مجهولة عند عموم الجمهور التركي بسبب التعتيم والتشويه المنهجيين في التاريخ الرسمي. لذلك جاء بث الحلقة المذكورة من برنامج «من الأرشيف» على شاشة التلفزيون في شهر رمضان، بمثابة عينة ذات دلالة كبيرة على مدى اتساع النقاش الذي أطلقته الحكومة حول المسألة الكردية وسبل الحل السلمي لها، ومدى شفافيته وجرأته في تحطيم التابوهات التقليدية في الحياة السياسية والثقافية في تركيا.
أطلقت حكومة رجب طيب أردوغان «مبادرة» لحل المسألة الكردية، لعل أفضل ما فيها «غموضها البناء». فهي لم تطرح خطة محددة للحل، بل فتحت النقاش واسعاً في المجتمع التركي، بعد سلسلة من الإشارات الغامضة إلى جدية الحكومة في البحث عن حل سلمي لحرب استنزفت طاقات المجتمع والدولة طيلة عقود، بلغت حصيلتها نحو أربعين ألف قتيل وعشرات الالاف من الجرحى والمعطوبين، عدا التكاليف المادية الباهظة.
وتم تكليف وزير الداخلية بشير آتالاي المعروف برحابة الأفق والانفتاح على مختلف الاتجاهات في المجتمع والسياسة، بإدارة الملف الكردي، فأمضى الرجل أكثر من شهر في لقاءات مع مختلف أطراف المشهد السياسي – الاجتماعي – الثقافي، أصغى فيه إلى أفكارها ومقترحاتها وهواجسها وتلقى دعماً من معظمها للمبادرة الحكومية، فاتسعت «القاعدة الاجتماعية للتوافق» على حل المسألة الكردية بمختلف جوانبها، فأضيفت إلى توافق مؤسسات النظام التركي (الحكومة ورئاسة الجمهورية وقيادة أركان الجيش) لتنتج أجندة عمل حكومية بروزنامة محددة تبدأ بطرح «رزمة» للحل السياسي على مجلس النواب في أول جلسة له بعد العطلة السنوية في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، على أن يتم «إنجاز شيء ملموس» مع مطلع العام الجديد.
أجواء التفاؤل الشائعة في الرأي العام، لم تنجح في إخفاء انقسام عميق ينذر بارتدادت مشؤومة أبرز تظاهراتها رفض حزبي المعارضة الرئيسيين في المجلس، ووسائل الإعلام الدائرة في فلكهما، لأي حوار مع الحكومة حول مبادرتها.
وعلى رغم أن الموقف السلبي لحزبي الشعب الجمهوري (دنيز بايكال) والحركة القومية (دولت بهتشلي) حشرهما في الزاوية الضيقة التي يستحقانها كمعطلين للحل السلمي وداعيتي حرب، فهما يعكسان قسماً مهماً من الرأي العام والمزاج الشعبي الشوفيني، لا يمكن تجاهلهما.
الدولة التي دأبت على تربية أجيال من الأتراك على تقديس الدولة وطابعها القومي العلماني، وأعمت عيونها عن وقائع التاريخ، وغذت لديها بارانويا التقسيم و«المؤامرات الدولية ذات الامتدادات الداخلية» تدفع اليوم ثمن سياساتها، تمحوراً حول «الهوية» وعداءً للأجانب ونزوعاً إلى العنف، لدى قطاعات لا يستهان بحجمها، تجد من يستثمرها سياسياً في الحزبين «العلماني» و «القومي» على التوالي.
من المؤسف أن الحكومة صاحبة المبادرة قد انزلقت إلى السجال المسف مع حزبي المعارضة، فتبادل الطرفان عبارات التخوين والشتائم كل بحق الآخر، الأمر الذي منح قيادة أركان الجيش الفرصة الذهبية للتدخل في النقاش من موقع «الحكَم» و «الحكمة» فأعلن إلكر باشبوغ عن «خطوطه الحمر» المتعلقة بوحدة الدولة ومركزيتها ووحدة الشعب ولغته وعلمه والتشديد على مقدمة الدستور النافذ بمواده «غير القابلة للتغيير، بل ولا يجوز الاقتراح بتغييرها».
منذ طرحت الحكومة مبادرتها للحل السلمي ودنيز بايكال يستفز قيادة الجيش للتدخل، منطلقاً من إفلاس العقيدة الكمالية لحزبه، وإذ نجح الثعلب المعارض العجوز في استدراج أردوغان إلى السجال الصاخب المسف، «اضطر» باشبوغ للنزول إلى ساحة النقاش، فبات كمن استعاد زمام المبادرة بعد اهتزاز موقع الجيش في المعادلة الداخلية للنظام في الأشهر القليلة الماضية (توسع دائرة الاعتقالات في قضية شبكة أرغنكون بجناحيها المدني والعسكري، ونجاح الحكومة في تمرير قانون يتيح للقضاء المدني محاكمة الضباط الضالعين في مخططات انقلابية).
بيد أن للحياة منطقاً من الموضوعية والبرود ما لا يمكن معه قلب مسار التاريخ القهقرى: الفضائح المدوية في المؤسسة العسكرية ضربت هيبتها المألوفة «بفضل» تاريخها الحافل بالانقلابات العسكرية، فبات بوسع جريدة الطرف المناهضة للوصاية العسكرية أن تطل على قرائها، صبيحة تصريحات رئيس قيادة الأركان بهذا المانشيت الهجومي: «اهتم بشؤونك أيها الجنرال!».
يومية الطرف المذكورة نفسها أضافت إلى نجاحاتها المهنية نجاحاً جديداً حين كشفت عن ملابسات مقتل أربعة جنود أتراك في مقر عملهم، فيما وصفته المصادر العسكرية بأنه «حادث»: الضابط المناوب الذي وجد أحد عناصر الحراسة الليلية نائماً أثناء مناوبته، سحب مسمار الأمان من قنبلة يدوية ووضعها في يد المجند وأمره بالامساك بها عقاباً له على نومه.
طيلة خمس وأربعين دقيقة والمجند الممسك بالقنبلة يتوسل إلى الضابط قائلاً إنه سينهي خدمته الإلزامية بعد شهرين ونصف، لكن الضابط صم أذنيه عن توسلات المجند الذي تعرقت يده الممسكة بالقنبلة فأفلتها، فكانت النتيجة أن المجند قتل مع ثلاثة من رفاقه، وأعلنت مصادر الجيش عن مقتلهم «في حادث». تمكنت جريدة الطرف من الحصول على معلومات موثوقة من شهود عيان فنشرت خبر الاغتيال المقصود في مانشيت صفحتها الأولى. اضطرت قيادة الجيش، في أعقاب نقل جميع الصحف خبر يومية الطرف، إلى اعتقال الضابط القاتل والإعلان عن بدء التحقيق معه.
إضافة إلى أهميتها الذاتية، جاء الكشف عن ملابسات هذا «الحادث» الفظيع، في توقيت بارع، أفرغ تدخل باشبوغ في النقاش الدائر حول سبل حل المسألة الكردية، من محتواه التحذيري، وأعاد الجيش إلى مربع الدفاع عن هيبته المرضوضة ووزنه المتراجع في الحياة السياسية التركية وقوته المتضائلة في المعادلة الداخلية للنظام.
* كاتب سوري
الحياة