الأكثرية والأقلية: في شروط السجال ومعانيه
فواز طرابلسي
أول ما ينبغي التفاهم عليه للتدخل في السجال الدائر حول الأقلية والأكثرية، أمران:
[ شروط السجال.
[ المعاني المعطاة للمصطلحين «أكثرية» و«أقلية».
أما عن شروط السجال فبعد الإمعان بما دار من سجالات وردود أفعال، تقتضي الصراحة الإعلان عنها بالفم الملآن وبالوضوح الكافي، وإن كان هذا يدعو إلى ارتفاع أكثر من حاجب تعجباً أو ارتفاع العقيرة الاستنكاري.
يجب النظر إلى جميع المساهمين في هذه الحوارات والسجالات، مهما غلظ الكلام فيها، على أنهم مواطنون متساوون في حقهم في إبداء الرأي. لا فضل هنا لرجل دين أو عالم دين على آخر أو لرجل دين على أبناء هذه الدنيا (رجالاً ونساءً) إلا لقوة الحجة والإقناع في مباريات التأثير في الرأي العام وكسبه.
لا فضل هنا ولا امتياز. ولا معنى للتذكير بسمو المقامات والتراتبيات ولا لاستنكار «التطاول» عليها ولا بالزج بـ«ملح لبنان» أو بزج من أعطي أو لم يعطَ «مجد لبنان له» في السجال. الكل سواسية هنا كأسنان المشط، في الحق في إبداء الرأي، مهما علا كعبهم في أدوار «أخروية» لهم، في مؤسساتهم ومراتبهم الدينية. وهي، الثماني عشرة من مراتب رجال الدين وعلمائه، تستحق كل الاحترام والتقدير.
فرجل الدين أو عالم الدين الذي يدلي برأي في السياسة، يقوم بذلك بصفته الفردية بما هو مواطن وعلى حسابه الخاص. ففي هذا الحيز، المعرّف تخصيصاً بأنه مجال التناقض والخيارات والاستنساب وعلاقات القوى، لا مجال للتحليل أو التحريم والأهم لا مجال لاستدعاء المقدّس أو ادعاء النطق باسم الجماعة الدينية. هذا إذا أردنا أن لا يتحول السجال إلى ما لا تسمح به لا الدنيا ولا الآخرة.
فالذي يريد أن يلاعب «قط» السياسة عليه أن يحتمل خمشاته، كائناً من كان، وإلا فحري به التخلي عن إبداء الرأي في أمور الدنيا. فإما أن يصير هذا بمثابة العرف والتقليد في حياتنا السياسية، إذا كنا نريد أن نتدارك الأسوأ، وإما أن يجري التفاهم على امتناع رجال الدين وعلماء الدين عن التعاطي في الشؤون السياسية قولاً وفعلاً. وهو طبعاً وأقصى المنى.
عدا عن هذا، يقوم السجال الدائر حالياً على خلط كبير وسوء تفاهم أكبر في معاني الأكثرية والأقلية. فدعاة تشكيل الحكومة على قاعدة الأكثرية السياسية لا يبدو أنهم يكترثون لكون الأكثرية المقصودة تقصي القسم الأكبر من الممثلين السياسيين للجماعة الشيعية عن المشاركة الفعلية في القرار التنفيذي، أو تحوّلها إلى كمّ مهمل في القرار التنفيذي. أما الذين يردّون على هذا باسم الأكثرية العددية، فإنهم يهددون عملياً بالطغيان العددي يمارسه ممثلو الطائفة الأكثر عدداً في البلد وهي الطائفة الشيعية.
غني عن القول هنا أن كلتا وجهتي النظر تستطيع الاستنجاد بالدستور دعماً لـ«أكثريتها». والمعلوم أن الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف قائم على ثنائيتين: الثنائية الأولى أنه يشرّع لنظام رئاسي ونيابي في آن (بل انه بات نظاماً «وزارياً» أيضاً، بعد اتفاق الدوحة). والثنائية الثانية هي ارتكاز النظام السياسي على مبدأين: المواطنة وحكم الأكثرية، من جهة، والتشاركية بين الجماعات المعرّفة طائفياً ومذهبياً، من جهة ثانية.
إذا كان اقتراح حكم الأكثرية السياسية، والرد عليه باسم حكم الأكثرية العددية، من قبيل الذهاب في الأمر إلى أقصاه، يصير السؤال: يوجد حل وسط بين الحدّين؟ أرجح الظن، كما بيّنت التجربة، أنه يمكن أن يكون تسويات بينهما وتعطيلاً لا حلاً.
حقيقة الأمر أن لبنان قد جرّب كل المنوعات التي أمكن ابتكارها في جدل الأكثرية والأقلية هذا.
ـ عند قيام لبنان الكبير عام 1920، اكتشف أن سكان لبنان كادوا يكونون متساوين من حيث الانتماء الطوائفي بين مسيحيين ومسلمين، فجرى تحويل جميع اللبنانيين إلى «أقليات». فصار الحكم شراكة بين «الأقليات الدينية المتآخية» على ما صاغ ميشال شيحا. على أن تطبيق المنطق الأقلوي على جميع اللبنانيين لم يحل دون تطبيق القاعدة العددية من حيث توازع مراكز الحكم والتمثيل السياسي والإداري. هكذا نالت الأقلية الأكبر عدداً ـ الموارنة آنذاك ـ الأسبقية السياسية.
ـ خلال عهود الاستقلال الأولى، تكرّست تلك الأسبقية المارونية في نظام رئاسي شبه مطلق الصلاحيات في مقابل استغناء النخب المارونية عن الحماية الأجنبية.
ـ بسبب استئثار نخب النظام الاستقلالي، اقتضى الأمر حربين أهليتين كي «تدخل» سائر «الأقليات المتشاركة» الأخرى في الشراكة اللبنانية. أفضت «حوادث 1958» إلى لون من الشراكة غير المتكافئة للنخبة السنية. وأعلنت حرب 1975 ـ 1990 الأهلية دخول الجماعة الشيعية إلى قلب النظام في توازع جديد للقوى بين الطوائف الثلاث الرئيسية.
ـ ما من شك في أن نظام الطائف، وإن يكن لم يلبّ قطعاً طموحات «الأقليات المتشاركة» السنية والشيعية وأدوارها، فالمؤكد أنه خلق شعوراً بالأقلوية لدى المسيحيين عموماً، يتضافر عليه فقدان الأكثرية العددية وتناقص الأرجحية السياسية وتبدّد الأسبقية الاقتصادية. ومع أن النخب السياسية المسيحية تتحمّل مسؤولية كبرى في إيصال الأمر إلى هذه المواصيل، فما من شك في أن هذا الشعور يتعمق مع انتشار الأصوليات وتفجر المذهبيات من كل حدب وصوب. فإذا كان ثمة حرص على أن لا يلقى مسيحيو لبنان مصير مسيحيي فلسطين، وجب الاعتراف بأن ثمة مشكلة مسيحية قائمة بذاتها ومن الضروري إيجاد حل لها.
على أن المصيبة هنا أن ما تجمع عليه معالجات معظم القوى المسيحية السياسية يكاد لا يخرج عن تجريب المجرّب: السعي لاستعادة الأرجحية السياسية من خلال استعادة الدور السابق لرئيس الجمهورية وصلاحياته شبه المطلقة.
وهو تجريب المجرّب ليس فقط لأنه يتم في حضور قوتين شبه متوازيتين لن ترضى أي منهما إعادتها إلى مركز ثانوي، وإنما أيضاً لأن المطالبة بصلاحيات استثنائية لرئاسة الجمهورية تستدعي نظاماً رئاسياً لم يعد بالإمكان أن يتم على قاعدة انتخابه من المجلس النيابي، بل تستدعي انتخابه من الشعب مباشرة. وهذا أمر ممكن ومقبول، لأن به يتوازن النظام السياسي بين رئاسي ونيابي.
باستثناء ذلك، يكون الحل ببساطة وبالتكرار: تطبيق الدستور. أي القبول بثنائية تمثيل الأفراد/تمثيل الجماعات من خلال مجلسين: مجلس نواب خارج القيد الطائفي وبالانتخاب على أساس النسبية واللوائح المقفلة والدائرة الواحدة، ومجلس شيوخ، منتخب مباشرة من الطوائف بما هي وحدات انتخابية، يبت بالقضايا ذات الأهمية الوطنية والمصيرية كما هو وارد في الدستور، على أن يعطى فيه أرجحية مسيحية، إذا كان ثمة نية فعلية للقبول بتنوّع لا يؤدي إلى استئثار ولا إلى غلبة.
إذ ذاك فقط تصير الأقلية والأكثرية وراءنا حقاً، لا بالتأجيل والتجاهل والمزايدات الكلامية من «تعايش» و«عيش مشترك»، ناهيك بـ«العيش الواحد».
وحتى لا «تشطح» بنا الحماسة فنحسب أننا اكتشفنا الكنز العثماني، أو مفتاح المعجزة، لنعترف، مع الأسف، بأن «الأكثرية» المناط بها مثل هذا التغيير لم تصل بعد إلى مستوى «الأقلية» لتصير لها فعالية ما في حسم هذا الجدل في الأكثرية والأقلية…
السفير