تجميل قذر
صبحي حديدي
هنالك دائرة مجهولة، والأحرى القول إنها مغمورة مهمَلة، تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويتوجب على اللجنة التنفيذية الجديدة أن توليها أقصى الاهتمام والرعاية، وأن توفّر لها كلّ أسباب النجاح المادية والمعنوية. هذه الدائرة هي ‘المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الإستيطان’، وكانت قد تأسست سنة 1996 بمبادرة من تيسير خالد، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لكي تقوم بسلسلة مهامّ عملية في ميادين توثيق أعمال الإستيطان ومصادرة الأراضي، وإصدار التقارير الدورية، وتقديم المساعدات والإستشارة القانونية، والتعاون مع الهيئات والمنظمات الدولية في مقاومة الأنشطة الإستيطانية.
وبين أفضل وثائق المكتب تلك القائمة المفصّلة بأسماء السلع والبضائع المنتَجة في المستوطنات الإسرائيلية، حسب القطاعات الصناعية: المواد الغذائية، المشروبات الخفيفة والعصائر، المشروبات الروحية، المستلزمات المدرسية والقرطاسية، دور النشر والمطابع، موادّ التجميل والمنظفات الكيماوية، السجاد والموكيت والأقمشة والملابس، الصناعات البلاستيكية، الأجهزة والصناعات الإلكترونية، المعدّات والأجهزة الكهربائية، الأثاث المعدني والخشبي، موادّ البناء، صناعات الجلود والأحذية، الأدوات المنزلية، وسواها.
تطوير عمل هذا المكتب يصبح أمراً مُلزماً، على صعيد سياسي وعملي وأخلاقي في آن، إذا ما تذكّر المرء أن عدداً من منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان العالمية (وبينها جهات إسرائيلية مناهضة للإحتلال، كما تجب الإشارة) يقوم بالكثير من الجهد في هذا الميدان، وعلى نحو ذي فعالية خاصة لأنه يجري داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وفي مختلف وسائل حشد الرأي العامّ، من جهة؛ كما يستهدف، من جهة ثانية، فضح الشركات المتعاونة مع الإستيطان، أو المستفيدة من المستوطنات، ثمّ المطالبة بمقاطعة منتجاتها المختلفة. هذه، على سبيل المثال الأبرز، هي حال منظمة ‘تحالف النساء من أجل السلام’، التي تدير موقعاً على الإنترنت بعنوان ‘مَن المستفيد؟ فضح صناعة الإحتلال الإسرائيلية’، يتضمن لائحة مفصّلة بالمؤسسات ذات الصلة، في قطاعات صناعة المستوطنات، والاستغلال الاقتصادي للموارد الفلسطينية، والشركات الخاصة بالأمن والرقابة.
أحدث حملات هذه المجموعة كانت كشف النقاب عن طبيعة أنشطة شركة مستحضرات التجميل الإسرائيلية الشهيرة ‘آهافا’ Ahava، التي تعلن التالي في إطراء ذاتها: ‘وفاءً لفلسفتنا في حماية جمال المنطقة الداخلي ومواردها، وطّدنا علاقة حميمة وحانية مع البحر الميت، واشتغلنا على طول شواطئه الساحرة’؛ كذلك: ‘إننا نتوخى المسؤولية في جني حصاد المعادن المتبلّرة، وطين البحر الميت المعدني، والنباتات الصحراوية التي تنمو في الهواء النقيّ لهذه المنطقة السحرية. ونحن لا نأخذ إلا ما نحتاجه حصرياً، ونترك للطبيعة أن تعيد إنماء نفسها على هواها’.
ومقرّ ‘أهافا’ يقع في مستوطنة متسبيه شاليم القريبة من البحر الميت، والتي أقيمت سنة 1970، على أرض محتلة تحرّم اتفاقية جنيف الرابعة أيّ استغلال لمواردها الطبيعية. لكنّ الشركة تتغافل تماماً عن حقيقة أنّ ضفّة البحر الميت التي تعمل عليها، وتنهب منها، هي أرض محتلة بحكم القانون الدولي، وفي نظر دول العالم قاطبة، ما خلا الدولة العبرية؛ كما تُغفل عن سابق قصد ذكر أية معلومة تخصّ فلسطينية هذا البحر، ليس بالمصطلح السياسي والقانوني فحسب، بل بالمعنى التاريخي والجغرافي والأسطوري أيضاً. على النقيض، تزعم الشركة أنّ المنشأ الأصلي لمنتجاتها هو ‘البحر الميت، إسرائيل’، وبالتالي تضيف إلى إهانة الشعب الفلسطيني منفذاً مراوغاً للتحايل على جمارك العالم، بهدف الإعفاء من ضرائب الإستيراد والتصدير المعمول بها في مناطق تجارية مثل الإتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
وهذا هو جوهر الحملة الشرسة التي شنّتها منظمة ‘تحالف النساء من أجل السلام’، حين نفّذت ناشطاتها سلسلة غارات على عدد من الصيدليات في إسرائيل، حيث تُباع مستحضرات ‘آهافا’، وكنّ يرتدين البكيني وقد لطّخن أجسادهن بطين البحر الميت، وحملن لافتات تقول’ ‘لا حبّ مع الإحتلال’، بالنظر إلى أنّ مفردة ‘أهافا’ تعني ‘الحبّ’ في اللغة العبرية. غارات مشابهة شهدها جناح الشركة الإسرائيلية في معرض ‘كوزموبروف’ السنوي، المخصّص لصناعات موادّ التجميل، في مدينة لاس فيغاس الأمريكية، ضمن حملة واسعة بعنوان ‘الجمال المسروق’، تهدف إلى ‘الضغط على الشركة لإنهاء ممارساتها الاستغلالية وغير القانونية، وللضغط على إسرائيل لإنهاء انتهاكاتها للقانون الدولي، ضدّ فلسطين وشعبها’، كما قال بيان المنظمة.
أولى ثمار الحملة كان قرار منظمة ‘أوكسفام’ الدولية بإعفاء الممثلة كيرستن دافيز، إحدى بطلات مسلسل ‘الجنس والمدينة’، من مهامّها كسفيرة نوايا حسنة، بسبب عملها كناطقة باسم شركة ‘أهافا’، واشتراكها في حملات ترويج لمنتجات البحر الميت. في عبارة أخرى، يمكن لهذا الطراز من أنشطة المجتمع المدني ان يصيب مقتلاً فعلياً، معنوياً في البدء، ثمّ تجارياً ومالياً ودعائياً في ما بعد. وإذا كان عدد منتجات ‘أهافا’ يبلغ أكثر من 30 صنفاً في فرنسا، وأكثر من 40 في اليابان، وأكثر من 70 في أمريكا… فللمرء أن يتخيّل حجم الأذى الذي سينجم عن افتضاح هذه ‘الصناعة القذرة’، حسب توصيف الحملة.
هذا بافتراض أنّ الحملة تتولاها منظمات مجتمع مدني غربية غالباً، مستقلة، متواضعة الموارد؛ فكيف إذا ساهمت في دعمها منظمات عربية، ودوائر السلطة الفلسطينية، وجامعة الدول العربية، أو حتى بعض مليارديرات العرب؟ وكيف إذا… قرّرت ثريات العرب، وهنّ مسرفات في الإنفاق على مستحضرات التجميل، مقاطعة كامل منتجات هذا الجمال المسروق؟
خاص – صفحات سورية –