بانتظار انقلاب أوباما

ميشيل كيلو
لمناسبة أول زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر إلى المنطقة العربية بعد حرب تشرين عام ،1973 نشر علي فرزات، رسام الكاريكاتير السوري المعروف، رسماً ساخراً يصور الوزير محمولاً على أكتاف مواطنين عرب تجمعوا لاستقباله في مطار دمشق، وقد وضع على رأسه كوفية وعقالاً ورفع يديه هاتفاً بحماسة قومية لافتة: ياعروبتنا يا عروبة!
في تلك الفترة، عبّر فرزات خير تعبير عن أجواء تفاؤلية نشرتها الحكومتان السورية والمصرية حول سياسة أمريكا، التي ظنوا أنها فهمت جيداً ما أسموه “درس تشرين”، وقررت حل الصراع العربي  “الإسرائيلي” بروح العدالة والإنصاف، ونشروا أجواء حظرت انتقادها أو إبداء أي قدر من الشك فيها أو التذمر منها، ودعوا إلى التعامل معها بوصفها سياسة انحازت فعلاً إلى النهج القومي العربي، بل صارت، كما بيّن كاريكاتير فرزات بسخرية سوداء، قائدة العروبة.
تكررت هذه الملهاة  المأساة قبل كل انتخابات رئاسية أمريكية، بما في ذلك قبل انتخاب جورج بوش الابن، الذي دعمه العرب بمالهم وفيض عواطفهم وبلاهتهم، وعلقوا أعظم الآمال عليه، باعتبار أنه سيكون، كمسيحي أصولي متطرف، معادياً بالضرورة للصهيونية وصديقاً للعرب، الذين سيمكنهم مزاحمة اليهود على قلبه، إن هم أحسنوا ملء جيبه، ودعموا حملته الانتخابية. طبيعي أن أجواء التفاؤل الأبله كانت تنتهي بعد أسابيع قليلة من انتخاب أي رئيس أمريكي، عندما كان يتضح أن الوعود الانتخابية شيء والسياسات العملية شيء آخر، وأن سياسات الرئيس لا تنبع من رغباته وميوله، بل من ضرورات موضوعية وحسابات ذاتية وتنظيمية شديدة التشابك والتعقيد، تتداخل فيها عوامل كثيرة، بعضها ظاهر وبعضها خفي، لها صلة بمصالح ودوائر تتخطى شخص الرئيس وقدراته، في دولة مؤسسية في الأحوال الطبيعية، غير أنها تتخطى أية مؤسسة، إن تطلب الأمر واقتضت المصالح، تصل قدرتها على تجاهل القانون والأعراف إلى حد القتل: قتل رئيسها في الداخل، وقتل شعوب بكاملها في الخارج.
اتهم محمد حسنين هيكل مرات متكررة المسؤولين العرب بعدم معرفة النظام الأمريكي وجهل آليات اشتغاله. وقال إن الجهل الرسمي العربي يشمل طرق إجراء الانتخابات في أمريكا، ويصل إلى طبيعة المؤسسات التي تصنع القرار هناك، وإلى الممارسات والاختصاصات والصلاحيات الخاصة بكل موقع من مواقع السلطة والدولة، وكل دائرة من دوائر المجتمع والمؤسسات الوسيطة، التي تربط “فوق” ب “تحت” وبالعكس، وتتمتع بقدر كبير من استقلالية العمل والفكر والقرار.
والحق، إن هذا الجهل بدا دوماً جلياً في جميع المناسبات والأوقات، واتسم بقدر كبير من الميل إلى إضفاء أوهام الذات على واقع الغير، بما في ذلك واقع آخر رئيس أمريكي، باراك أوباما، الذي اعترف بصعوبة تغيير النظام الأمريكي وخياراته وسياساته وممارساته، باعتباره نظاماً مؤسسياً مكرساً منذ وقت طويل، تملك أجهزته المختلفة صلاحيات لا تتنازل لأحد عنها، يقوم على توازن حساس ودقيق بين الرئاسة والكونجرس كمؤسستين مستقلتين نسبياً تراقب كل واحدة منهما الأخرى، وتضبط جموحها وجنوحها نحو التفرد، فضلاً عن أنه نظام ثقيل وبطيء، في عمله كما في استجاباته، على حد قول أوباما، الذي كان يشرح ممكنات وفرص التغيير، الذي كان قد تعهد بتنفيذه خلال حملته الرئاسية، مؤكداً أنه لا يجوز لأحد مواجهة واقع أمريكا الصعب بأوهام وردية، ربما احتلت روحه، لكن ذلك لن يجعلها خطة عمل واقعية قابلة للتحقيق.
لم يكذب أوباما ولم يخدع أحداً. ولم يبع العرب أحلاماً وأوهاماً زاهية، بل قال بصراحة إن تغيير سياسة أمريكا مسألة صعبة وتتطلب وقتاً طويلاً وجهوداً مضنية. لكن السياسة العربية لم تسمع ما قاله وواصلت القفز عن تقديراته الدقيقة، لتضع آمالها فيه وتجعل منه ضرباً من بطل مغوار، سيغير سياسة اكتشفوا  متأخرين طبعاً  أن جورج بوش كان يوجه رأس حربتها ضدهم، أدت إلى احتلال العراق وقيام شرق أوسط ينكر بعضهم وجوده؛ مملوء بالفوضى الخلاقة، مركزه الغربي جيش “إسرائيل”، والشرقي جيش واشنطن في العراق.
لم يكذب أوباما على العرب، لكن هؤلاء يكذبون على أنفسهم، ويضعون الرئيس الأمريكي في مكان لا ينتمون هم أنفسهم إليه، هو موقع الزعيم المخلص لقضايا العرب العادلة والمحقة، العامل على تحقيق أهدافها بجد وإخلاص. قال أوباما إنه لن يتمكن من إنجاز تغيير سريع في أمريكا، فلم يصدقه معظمنا وواصلوا التعلق بوهم يرى أنه الرجل الذي سيقوم بالانقلاب الأمريكي المنتظر، لصالح عرب عاجزين عن تحقيق أهدافهم بأيديهم، يتوهمون أنها ستتحقق بيد أمريكا ورئيسها، لذلك، يتجاهلون ما قاله بصدق ونزاهة حول محدودية قدرته على إحداث التغيير: في بلده وخارجه. واليوم، ينتظر هؤلاء انقلاب رئيس أمريكا على علاقات واشنطن الدولية وتحالفاتها الاستراتيجية، مثلما سبق لهم أن انقلبوا هم أنفسهم، ليأسهم من التخلص من هزائم شاملة لم يعرفوا كيف يخرجون منها، ولم يعملوا لامتلاك القدرة على تخطيها، فتوهموا أن إحكام قبضتهم على بلدانهم وحجب الحرية عن شعوبهم، سيمكنانهم من التعايش مع أزمتهم ومن إدارتها بنجاح، إلى فترة غير محدودة. لا داعي للقول إن أوباما لن يفعل ما فعله هؤلاء، لسبب بسيط هو أنه يخدم دولة، وأنه غير قادر على القيام بانقلابات، إن هو سمح لنفسه بالتفكير فيها أصلاً.
لن يقوم أوباما بأي انقلاب في أي مكان. إنه يكتفي بعمل واحد شاق جداً هو إخراج أمريكا من ضعفها السياسي والعسكري وأزمتها الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، في الداخل كما في الخارج، والتخلص من تركة جورج بوش. لو كنا في وضع عقلاني وسليم، لطُرح سؤال واحد علينا: كيف نستغل وضع أمريكا الصعب لممارسة ضغط مؤثر عليها، يجعلها تدفع ثمناً كبيراً، إن هي أحجمت عن إحداث تغيير حقيقي في سياساتها تجاه قضايانا، طبعاً من دون أن ننتظر قيام رئيسها بما كان عليها نحن أنفسنا إنجازه منذ قرن؟
إن الانقلاب الوحيد، الذي يجب علينا المطالبة به هو انقلاب العرب على حالهم الراهن، فإن لم ينجزوه وفي أسرع وقت، كان الانقلاب الذي ينتظرونه من غيرهم، أوباما أو غير أوباما، عبثاً لا طائل تحته، يضيع عليهم وقتاً ثميناً يضاف إلى عقود وقرون ضيعتها أوهام أنجبها عجزهم، وتقاعسهم، ورسوخ روح العبودية في نفوسهم.
الخليج