لارش هيكر يسمّيه النقّاد شاعر اللحظة الضائعة
قصائد الشاعر الأسوجي لارش هيكر تشبه أغنية الطير، من حيث بساطة اللغة والبناء المعتمد في قصيدته. فالجملة أكثر وداعةً من أن تُكتب، والبناء يبدو مفككا على طريقة جمل متتالية تتقاطع وتتناقض بصورة حادة.
هي أغنية الطير، التي شغلت بال موسيقيين عظام على مر التاريخ، وصدحت في الكثير من الأعمال الموسيقية. فمن زرزور موتسارت إلى عندليب بيتهوفن في السمفونية السادسة، ثم طائر الوقواق في أولى سمفونيات مالر، وتوثيقات باتروك لأصوات الطيور. ظلت هذه الأغنية، أغنية الطير، تتكرر في أعمال الكثيرين مثل شومان وليست وآخرين وصولا إلى ميسان الذي اعتبر الطيور أعظم من غزا الأرض من الموسيقيين.
من خلال الاكتشافات العلمية، حول طبيعة أغنية الطير، الرقيقة، الوديعة، الحادة، والمليئة بالتوتر والقلق، وبفعل لا منهجيتها، صارت هذه الأغنية المعبّر الحقيقي عن الطبيعة، وصارت الموسيقى تالياً، تحمل خصائص أصوات الطيور، بما يجعلها استجابة إنسانية للطبيعة وتقليدا لها.
كحال كل الموسيقيين الذين انصاعوا لأصوات الطبيعة، انصاع لارش هيكر، ولكن شعراً. ذلك ان قصائده تشكل استجابة حقيقية للطبيعة لكنها استجابة حانقة وثقيلة. مرد ذلك، ربما، الى إدراكه العميق لعدم قدرته على الخلاص من سطوتها عليه. ربما هذا ما يجعلنا نفهم أيضا الطبيعة التي تعتمل في بناء نصه الشعري حيث تتداعى الجمل والصور وتتتالى بشدة إلى أن تبدو كأن لا خيط يربط بعضها ببعض أحياناً. لكن القارئ المتأني، عاجلا أو آجلاً، لا بدّ ان يدرك وجود خيط رابط، لكنه، وبفعل توتر النص، يصل الى حد نصبح معه في حاجة إلى مجهر لنراه.
كل هذا التوتر داخل النص لا يخفي رغبة النص بأن يهدأ ويستقر. لكن هيهات، ما دامت الطبيعة تواصل صيرورتها ضاربةً كل ما هو مستقر بعرض الحائط، وجاعلة لارش هيكر كأنه يتأبط خيبته متنزّهاً معها في شوارع المدن، وسائلاً المارة: كيف تتغير التضاريس؟!
الحركة والسكون فعلان حاضران بشدة عند لارش هيكر، فمنهما كل شيء يبدأ، وبينهما لا شيء يستقر، وفيهما كل شيء ينتهي. يمتلك الشاعر مهارة خاصة في اللعب عليهما. مفتتحات قصائده دائما بارعة وغرائبية ضمن هذه الثنائية، وغالب الظن أنه لا يعتبرها ثنائية. ذلك أن هذه الثنائية ما إن تمر بخاطره حتى يسمعها على شكل ثلاثية: الحركة وقلقه الوجودي والسكون. وعليه، فإنه إذا بدأ قصيدته بصورة ساكنة، فسيدفعه قلقه الوجودي إلى صورة مناقضة، وإلى حركة تطيح السكون السابق. والعكس صحيح.
ليس لارش هيكر شاعراً مغموراً في أسوج، يعرفه العامة قبل الشعراء، وقصائده تذكّر بقصائد مواطنه الشاعر ترانسترومر، المعروف لدى القارئ العربي، لكنها أكثر قربا إلى اليومي منها.
لارش هيكر من مواليد عام 1958، درس الموسيقى ودرّسها، وهو يدير الآن مؤسسة تعليمية شعبية في مدينة إقامته أوبسالا. أصدر حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية: “حين شيء سعيد يتهاوى” (1999)، “هناك معايير لأمثالك” (2001)، و”ثقب” (2005).
يسمّيه النقاد شاعر اللحظة الضائعة.
مختارات
ارتفاع في الأرض
هناك، عند الساحل، حيث نسكن
تعلو الأرض على البحر نصف سنتيمتر واحد كل عام
حياة الإنسان تكون ثلاثة أو أربعة دسيمترات
تلزم أجيال عدة أو خرائط قديمة عدة
لنفهم كيف تتغير التضاريس
يمكن اتباع الأقنية المائية القديمة
مسافة كيلومتر في اليابسة
من خط الساحل الحالي عبر المروج حتى البيوت
من الممكن الدخول إلى البيوت
حيث للمرء أن يرى من نافذة مرتفعة
طريقاً سارة
ليس عندنا جيران
الكلمات الطيبة
تذكّرنا باللقالق المنتصبة
تحط كل عام في المرج وترفع ساقا خارج الماء
يتوافد الناس في مدن أحلامي المظلمة
لبّ جوزة
الخلجان تنتظر الجزر
أن تأتي إليها.
شفرة المنشار
الأيام تنشر الزجاج الفاصل بين الخارج والداخل
لكن في أريكتكِ يمكث الدفء كل الشتاء
ذات مساء ربيعي تبعتني على دراجة هوائية
لتحكي أشياء أعرفها
تظاهرتُ بالتعجب لسماعها
حكايا أشجار البلوط عن الحديد هي مسبقا في البيت
أنا محاط بكثافة أكثر خضرة من غياب البشر.
ذاكرة من السبعينات
الغرفة طفت على السطح، ثم غرقت ثانية
رأيتها لبرهة
ربما كانت تجلس غير مستعدة في كواليس المسرح قبل العرض
لا أعلم إن كنت سأتعرف اليها فعلاً إذا رأيتها، بعد ما فعلته عندما كنا نسكن معاً في عمارة عالية، لا أذكر منها سوى إطلالة النافذة، كاراج السيارات، المجمّع التجاري والحافلات الثلاث على سطحه تشتعل وتنطفئ الواحدة تلو الأخرى…
كنا نجلس متقابلين، شاحبين، بلونين مختلفين، نشرب الشاي.
لأتذكر الغرفة عليَّ أن أرغم نفسي على النظر إلى داخلي.
ربما في تلك اللحظة، عندما كنت معها، كنت أبحث عن مهرب.
في الليل أحسست أني محاصر ووحيد في شارع مخصص للمشاة.
حاجز شفّاف في تلك الصالة، أريكتان مخمليتان قانيتا الحمرة،
في الجانب الآخر موقد كهربائي بثلاثة رؤوس وبرّاد والمجلى نظيف…
لا لوحات هناك…
لا فاكهة في الصحون…
كانت الرياضيات شغله الشاغل، وعليها هي أن تجد الفرق بين الشيوعية والإشتراكية…
كانت قد أعطت أختها مكاناً في نظامها، وأنا كنت الجزء الذي تتمسك به لتثبت لنفسها بأنها حقيقية…
رأيتها أمام المرآة في الكواليس
صففت شعرها
أمالت رأسها جانبيا وإلى الخلف
بفخر أو باحتقار ابتسمت إلى المرآة.
على الطاولة فَراشٍ كثيرة لتزيين الوجه
وزهور من حرير.
مطر بأسلوب كورسيكي
أنا متيقن من رؤيتها ثانية
في حافلة في آياﭽو وهواء نافذة السقف يبعثر شعرها
درجة الحرارة لا تقل عن الأربعين
صافرات الإنذار تصفر كل الأيام الأخيرة من حزيران
حرائق جديدة تعلو في سفوح الجبال
من أصابته الحمّى مرةً يعرف رائحة جسدها تلك الليلة
رائحة فيها من العتمة أكثر ما في كتب الخرائط من سلاسل جبال
أفتح النافذة فأرى البروق
من النافذة يدخل هواء دافئ كجوقة أطفال
أضع أذني على الأرضية الخشبية فأسمع خطواتها على الحجر عارية القدمين
في الخارج الماء ينبض على الرمل
نبضه من تعب
مكانه من خطأ
على رغم ذلك، فربما لن أراها ثانية لكني أشعر باقتراب يلغي كلّ هواجس الأساطير العتيقة.
هي دائما حريصة مثل مسؤول نقابي
فلا يمكنني البحث عن أوريديس من دون إذن منها.
فجأةً توقف المطر وصمت كالطيور النائمة
أريد أن أوقظ هذه الطيور بحرصها نفسه
لكن ما أخافه هذه المرة
هو الموت.
ترجمة جاسم محمد
خالد الناصري