«الوريقات تطير من الأشجار كالعصافير» للشاعر آيه آر آمونز: طبيعة صامتة
مازن معروف
المختارات الصادرة حديثاً للشاعر آيه.آر.آمونز، بعنوان «الوريقات تطير من الأشجار كالعصافير» (ترجمة سامر أبو هواش، عن دار الجمل ودار كلمة)، تشير إلى أن الشاعر الأميركي الذي بدأ بشهرة متعثرة منتصف خمسينيات القرن الماضي، قدم نوذجاً، لم يكن مألوفا أو سهل الهضم لدى الجمهور الأميركي آنذاك. لم تكن قصيدته آنذاك تجريبية بالمعنى التأسيسي لطريقة كتابية في المستقبل، لأن آمونز كان يكتب في ذلك الوقت، قصيدة مستغربة، ومستوحدة تشبهه إلى حد بعيد. فالرجل القادم من مهن عديدة، بعيدة تماماً عن الشعر والحياة الأدبية، لم يكن يكترث إلا بكتابة ذاته، لكن على طريقة الناسك، الذي يرى الحياة من منطلق خصوصية تجربته الذاتية، وتأمله التام بالأشياء. هذه المهن، التي تنوعت مهامه فيها بين بائع عقارات، ومدير تنفيذي في شركة زجاج، ومدير مدرسة ابتدائية، ومحرر في مجلة، مارسها آمونز عموماً، لكنها لم توفر له شيئاً يمكن استثماره في الشعر، سوى الوحدة. ويبدو أن الوحدة، وجدت ألفتها في الرجل القابل لأن يمتصها ويعكسها في الطبيعة والأشياء. لكن هذه الوحدة بالذات، هي ما سيحمله آمونز طوال حياته باختياره نمطاً شعرياً، هو في الحقيقة مزيج بين مصطلحات تربوية وتعليمية في أميركا، ومفردات أخرى عامية خاصة بكارولاينا الشمالية حيث ترعرع، إضافة إلى تأثراته الظاهرة بالملاحم اليونانية القديمة، من خلال قصائده الأولى التي كانت تمتد لمئات الأبيات أحياناً، واستعماله لمفردات مشتقة عن اليونانية واللاتينية في قصيدته. هذا كله سوف يختزل فيما بعد، بحكم تعمق حضور بعض خاصيات الطبيعة بشكل خاص، وعلاقتها الوثيقة مع نفس آمونز من دون سواها (الحجر، العصافير، الريح، الشجر، الليل،..). الحجر سوف يحتل مكانة مميزة لدى آمونز، وسيتم موضعته في القصيدة، نداً صلداً، غير متحرك بالمعنى الميكانيكي، في وسط الحياة التي تشبه علبة كل ما فيها غير ثابت «حجر البداهة/ قد/ عمر/ أكثر/ من كل/ الأحجار» (أعجوبة الحفر)، أو «يبذل الحجر أطول جهوده وأشقها/ ليبقى متشبثاً/ ليحفظ في الذاكرة الوميض/ أو اللمعان الذي عبر ذات مرة، عين أحدهم» (الأضرحة).
هذه المقاربات المتوارية، والدقيقة في شعر آمونز، لا تعكس فقط أثر البيولوجيا التي درسها في بداية حياته، بل تحيل المعنى إلى ضفة غير رومنطيقية، رغم استعانة آمونز بالكثير من أدوات الطبيعة، وعلامات الفصول، لتفسير هواجسه وأحلامه المضطربة، وأفكاره عن الحب والأمل، الذي يبدو حضورهما خجولاً بشكل عام. لأن القصيدة، وبعد قراءتها، يتبين أنها واقعة في الفلك البسيكولوجي وبالتالي فإن لها مناخاً جوانياً، يعمل فيه الشاعر على امتصاص انتقائي لعناصر الغابة، والحقل، وفناء البيت، وهتكها وفقاً لما يريد البوح به، إذ يعيد تشكيلها بما يخدمه أولاً وأخيراً. فهناك ثنائية لافتة في جسم قصيدته، ما بين الشعر، الخارج على كل قانون، والنافر من كل تأويل، والفيزياء، الفجة الحضور بالمعنيين البصري والديناميكي. وإذا كان الشعر، بمثابة هيكل عظمي لنص يستحيل انزياحه إلى مطرح آخر، فإن العمود الفقري، لهذا النص، هو وجود الجسم المتحرك في القصيدة (الرياح، العصافير، الدودة، الأفعى، الماء،..)، بشكل دائم، وهو الجسم الذي سوف يوظفه آمونز في مراحل لاحقة من كتابته، ليضبط الجملة، ويسرع الانتقال نحو مقطع جديد، بعد أن يكون هذب عبارته بطريقة تذكّر بشعر الهايكو «وجدت/ عشبة ضارية/ فيها/ مرآة/ وتلك/ المرآة/ انعكست/ في/ مرآة/ في داخلي/ فيها/ عشبة ضارية». وهو يذكر، أن الصورة الشعرية الأقوى التي عرفها في حياته، هي حينما وجدت أمه آثار خطوات أخيه الطفل في الباحة، بعد موته بأيام، فحاولت بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح. وهي صورة تتمحور حول البقاء والفناء، وموت المادة واستمرارية أثرها. لكنها بالمعنى الآخر، فإنها تقارب ما بين ما هو أخرس وعاجز عن الحركة (الخطوات) وما هو صارخ ومتنقل (الريح القادمة).
مسارات
يلاحظ عند آمونز، مساران كبيران في تشكيله القصيدة، فهو إما يتبع أسلوب الجملة الواحدة الطويلة، كأرضية تتجزأ لاحقا في تبويبات، وتمتد إلى مئات الأبيات، كما في قصيدته «قمامة» التي حازت على جائزة «ناشيونال بووك آوورد»، وإما يكوّن قصيدته من جمل قصيرة، وحادة، وبسسب خصوصية بنيتها وحرفيتها ونبرتها الجارحة، فإنها تلزم القارئ متابعتها بشكل ذهني، بعد نهايتها على الورقة كما في قصيدة (حياتهما الجنسية) المكونة من سطرين فقط على النحو التالي «فشلٌ/ فوق الآخر». إن توظيف هذه الالتقاطات السوسيولوجية، واختصارها، كموشح في القصيدة، يترك لدى القارئ شيئا من غنائية سوداء، تلزمه اتباعها بشكل ذهني. فامتداد القصيدة، في مثل هذه الحالة، لا يكون امتداداً مشروطاً بوعي شعري يعبر عنه بمزيد من الكلمات، بل يشترط، تفعيل وجود الشريك ـ القارئ، الذي لا يكتفي آمونز، باعتباره متلقياً عابراً، بل يحمله وزر ما التقطته شعريته. لذلك فإن هذه القصائد القصيرة، تشبه فيتامينات، تؤدي دورها الحصري، بتحفيز مخيلة القارئ الشعرية، بعد أن توضع هذه المخيلة، في خانة التقارب الحياتي، وبالتالي ينضج عاملاً إضافياً يشبه انعدام المسافة بين مؤلف الشعر، ومتلقيه، الأمر الذي يرسم أفقاً كونياً لقصيدته، بالاعتماد فقط على مقاربة، قد تكون لحظوية، وقد يكون فيها الكثير من الخفة، إلا أنها تبقى مطمورة، بجدية الشعر الذي لا يتحمل المزاح.
يستقر شعر آمونز، في طبقة تبدو صامتة، لا يعنيها الصاخب، ولا تفتتها قسوة الطبيعة. فالنص متامسك، رغم نهايته المنفلتة أغلب الأحيان. يجبرك على أن تقرأه بصورة خافتة، وبشيء يشبه السرية أحياناً. لأن قاموس مفرداته الشعرية، يبدو قاموساً قاتماً، ضبابياً، ومقتصراً على مساحة جغرافية محدودة، تعبر عن ذاتها أحياناً من خلال مفردات وظواهر على تماس مباشر مع الجيولوجيا (الجبال، الوديان، الطرق الريفية، الطقس، الأرض،..). كما ولأن كل قصيدة عنده تشبه سؤالاً وجودياً مفشكلاً، لكنه مضبوط، بحيث لا يمكن للنص أن يخرج عن سلطة الشاعر الذهنية، ولا يمكن لبنائه، إلا أن يكون واثقاً، ونهائياً. وهذا الأمر هو أحد تعويذات آمونز الإضافية، التي يمارسها على القارئ. ففي مقابل المرونة الخداعة، والاختزال، اللتين يتحرك بهما شعره، من خلال العبارة المقتصدة، والثقيلة الإيقاع في الوقت ذاته، فإن هناك، نقيضاً يتربص بالقارئ، بعد التهامه القصيدة، وهذا النقيض، هو العلاقة، التي لا يمكن أن تبنى إلا بشكل تدريجي، لتتراكم أجزاؤها، بعد قراءة كل قصيدة. وهذا ما يبعث على ضرورة التمرس في قراءة آمونز والتأمل، في موازاة خفوت صوت الشاعر الخاص في القصيدة. لأن الصوت الأساس في القصيدة، هو صوت الأشياء التي تسكنها شاعرية آمونز من جهة، وهي أشياء ذات انتماء طبيعي، بالمعنى البيولوجي، لا تتم أنسنتها، إذ تبقيها اللغة الخاصة بالشاعر، دون مستوى الإنسان الناطق بشكل مباشر، غير أنه يتم من خلالها تحليل العالم، وتشكل في صمتها وتموقعها العادي، مدخلاً لتفسير الرؤى الشعرية الخاصة بآمونز «الحبة التي على الذروة/ تزن أقرب إلى لا شيء/ يسندها جبل بلا أحمال/ لكنها تقريباً جاهزة للطوفان/ مكشوفة أمام رياح الأعالي/ تتحمل قسوة أن لا أشكال أخرى لتكملها/ ولا سماء فارغة/ لتقود حلمها» (الأعلى). إذ إنه من ناحية يجري تجريدها، من وظائفها، أو جدوى وجوديتها، لتؤلف لغة بديلة انطلاقاً من هذا الوجود. يصب إحساس الشاعر عبرها، ومنها ينفذ إلى تفكيك العلاقات الانسانية والعمل على تفسير الروح الكامنة والموحدة بين كل نقيضين: الساكن والمتحرك، الزائل والباقي، الحلم ولوثة الواقع، الطبيعة ـ المساحة والوحشة ـ العدم، معتمداً على إحدى ركائز الفلسفة الكونفوشيوسية القديمة، التي تعتقد بأن الأشياء يمكن أن تدرك أكثر أسرار الأحياء، والعالم المحيط بها.
ولدت أولى قصائد آرتشي راندولف آمونز، على متن مدمرة أميركية جنوبي المحيط الهادئ، ويعتبر أحد أهم شعراء القرن العشرين. آمونز (1926ـ 2001). حائز على العديد من الجوائز الشعرية، منها جائزة ناشونال بوك آوورد التي نالها مرتين، وجائزة والاس ستيفنز، وجائزة ماك آرثر فيلوشيب، إضافة إلى جائزة مكتبة الكونغرس الأميركي للشعر، وجائزة الأكاديمية الأميركية للفنون. له مؤلفات شعرية عديدة مثل «لمعان» (1997)، «دروب الحواف»، «قمامة» (1993)، «القصائد القصيرة حقا» (1991)، «مشاهد سومرية» (1987)، «آمال كونية» (1982)، «ساحل من الأشجار» (1981)، «قصائد الثلج» (1977)، «الكرة: شكل حركة» (1974). وقد مارس تدريس الشعر في جامعة كورنيل في نيويورك، حتى وفاته عام 2001.