فايز سارة، المرح دائماً حتى داخل السجن
محمد علي العبد الله
أكثر من عام ونصف انقضى على اعتقال أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق، وإن تفاوتت تواريخ الإعتقال لأسباب قد ترجع إلى الرغبة الأمنية في “التدرج” في اعتقال المستهدفين، ربما تخفيفاً لحدة رد الفعل الذي قد يصدر عن إعتقالهم. قضى فايز سارة أيامه الأخيرة من عام 2007 في منزله، بين عائلته وذويه، في جو أقل ما يقال عنه أنه متوتر. ما يفوق الأربعين ناشطاً سياسياً قد اعتقلوا خلال أيام، وأطلق سراح بعضهم واحتفظ بالبعض الآخر، ولا أحد يعلم إن كان سيبيت الليلة في بيته أم في “بيت خالته”.
غامر فايز سارة بحريته عندما كتب مقالاً يدافع فيه عن رفاقه المعتقلين (من يشوه مواقف معتقلي إعلان دمشق؟، السفير، 27/12/2007)، ولم يتردد في الظهور عبر أثير فضائية الجزيرة في الثالث من كانون الثاني-يناير 2008 للتعليق على إعتقال رفاقه، لم يتوانى عن توصيف الأمور بما هي عليه، بحقيقتها، رغم ما تعنيه الحقيقة، وما عنته بالفعل، في بعض الأحيان. تسببت إطلالة الرجل الإعلامية ومقالته بإضافته للمجموعة المعتقلة، كون أوامر اللواء علي مملوك تقضي باعتقال كل من “يفتح فمه”، اعتقل سارة في نفس اليوم وأودع زنزانة منفردة مجاورة لزنزانة رفاقه.
تجربة الإعتقال ليست بغريبة عن “أبو حسام” ولم تكن الأولى، اعتقل الرجل سابقاً في السبعينات، شأنه شأن أي سوري اهتم بالشأن العام، وقضى سنتين من عمره متنقلاً بين سجن الشيخ حسن وسجن المزة العسكري قبل أن يطلق سراحه. مرة أخرى، وجدت السلطات أن أعضاء المجلس الوطني لإئتلاف إعلان دمشق قد “أضعفوا الشعور القومي”، التهمة ذاتها التي كانت قد حاقت بعشرات المثقفين في محاكمات صورية شبيهة، حكم على المجموعة بالسجن لسنتين ونصف، تبقى منها ما يقارب السنة.
جمعتني مع فايز، أو أبو حسام، مواقف عديدة، لا تخلو من الطرافة أبداً، لا أزال أذكرها بتفاصيلها التي قد تبدو مملة لمن قد يصعب عليه تخيل شخصية أبو حسام.
يا أخي ليش أنت محبوب؟ سؤال بادر به أحد الأصدقاء مخاطباً أبي حسام خلال إفطار رمضاني جمعني مع الأخير في منزل أحد الأصدقاء، لم أتوقف عند السؤال كثيراً باعتباره كأي مجاملة عادية تصدر عن أي كان لأي كان، ربما يرجع السبب في ذلك إلى حداثة صداقتي بأبو حسام وقتها، أو ربما كوني لا أزلت أنظر إليه وقتها كصديق والدي، فقد تعرفت إلى أبو حسام في العام 2005 عقب اعتقال والدي. كان سارة أحد الأصدقاء المواظبين على زيارة العائلة بشكل دوري، مشاركة الهموم والأخبار، والإطمئنان إلى أخبار صديقه بعد كل زيارة تقوم بها العائلة للسجن. رغم قصر الصداقة التي جمعتنا إلا أنها بدأت متينة، وقوية، وكأني قد “ورثت” صداقات والدي فجأة لحظة اعتقاله. طرائف كثيرة تشاركتها مع أبو حسام، رغم فارق السن الذي لا تشعر به أبداً معه، أبو حسام صاحب الروح الشبابية المرحة التي تجعله – إلى جانب صفات أخرى- قريباً من القلب، لا يُسأم الحديث معه، من القلائل الذين قد يحاورهم المرء بصراحة ويسر ودون تكلف وإن إختلف معهم بالرأي في أحيان كثيرة.
خلال فترة صداقتنا تشاركنا في عدة نشاطات قبل أن أعمل كمحرر أخبار في مكتبه، لم يغب الهم الوطني عن باله يوماً، ولا تخلو حياته اليومية من مرح يحار المرء أمام صاحبه، من أين يأتي بتلك الإبتسامة؟ ترافقت مع سارة وآخرين في زيارة لمدينة القامشلي للمشاركة في تأبين المرحوم الشهيد معشوق الخزنوي، بعد ان اغتالته السلطات بمؤامرة أقل ما يقال عنها أنها دنيئة. في نهاية الرحلة، بعد عودتنا، ودعني سارة في موقف الحافلات قائلاً: “منيح اللي انحبس أبوك لتعرفنا عليك”!
روح الدعابة لا تفارق أبي حسام، حتى في أقسى الظروف، بعد يوم واحد من عودتنا اعتقل أحد أعضاء الوفد المشارك بالتأبين، الأستاذ رياض درار، بسبب القائه كلمة خلال التأبين. اتصلت هاتفياً بسارة (الذي تولى تنظيم موضوع الوفد المتجهه للقامشلي وأسدى نصيحة لرياض درار بمرافقتنا وإلقاء كلمة تأبينية)، فور علمي بالخبر: انبسطت، حبسته للرجل؟. نعم، أجاب، لسا بدي احبسك إلك. مع ضحكة بسيطة. لم يمض شهرين على الحادثة حتى اعتقلت، داهمت أجهزة الأمن المنزل وللصدفة كنت أحادث أبو حسام عبر الهاتف، أعلمته: الشباب جايين ياخذوني. أجاب: شفت، قلتلك بدي احبسك إلك كمان، قوي قلبك وخلي الوالدة تحاكيني بعد ما يروحوا. انتهت المكالمة.
بعد إطلاق موقع النداء التابع لإئتلاف إعلان دمشق، تولى سارة تدريب فريق من الناشطين الشباب، ليعملوا كمحررين ومراسلين للموقع المذكور. في أول لقاء تدريبي لنا بعد وضع الخطوط العريضة للمشروع، تعرض مكتب سارة للمداهمة من قبل أجهزة الأمن. مع تعليمات بإخلاء المكتب فوراً أو اعتقال كل من فيه في حال رفضوا الخروج. أدار سارة “حواراً” مع عناصر الدورية الأمنية بعيداً عن باب المبنى (لعدم إزعاج السكان)، فيما تولى شخص آخر تهريبنا جميعاً… ملّ الضابط من أبو حسام وقرر اقتحام المكتب ليجده فارغاً! قابلت أبو حسام في اليوم التالي، ضحك من قلبه وقال: يخرب بيتكن كيف هربتوا؟ لو تشوف صورة وجه الضابط لما داهم المكتب ولاقاه فاضي.
لا يتمنى أحد السجن للآخرين، سيما إن كان نفسه سجيناً، يعي قسوة الاعتقال ومرارته على السجين ذاته وعلى أسرته، لكنه قد يفتقد صديقاً عزيزياً، أو قد “يشتهي” رفقته في السجن. خلال فترة اعتقالي مع والدي التي جمعتنا بالمعتقلين الموقعين على إعلان بيروت دمشق- دمشق بيروت، كانت مجموعة المعتقلين ببساطة هي نخبة الوسط الثقافي والسياسي السوري، ميشيل كيلو، أنور البني، محمود عيسى..آخرين، إضافة لتواجد د.كمال اللبواني في نفس السجن. كنت أكلم والدي: بتعرف شو ناقصنا؟ هالحبسة بدها فايز، والله مو حلوة بلا فايز…. لو فايز هون كنا تسلينا.
حتى أخبار اعتقال أبو حسام الأخيرة كانت مرحة على طريقته، هاتفني أحد الأصدقاء إلى بيروت بعد أن حضر جلسة إستجواب المعتقلين في قصر العدل بدمشق، هدف المكالمة كان حسبما فهمت أن يطمأنني عن والدي المعتقل من جديد، بدأ الصديق مكالمته: لو تشوف صاحبك فايز…. ضعفاااان… شالح جراباته وعاملهن حزام رابط فيه بنطلونه، وعم يتبسم تقول كأنه بشي لقاء تلفزيوني.
وكعادته، لا ينسى أصدقاءه، هاتفني أحد الأصدقاء المشتركين في أعقاب المواجهات بين حزب الله والحكومة اللبنانية في أيار 2008 قائلاً: حكي معي فايز سارة وقلقان عليك كثير، بيعرفك عم تدرس ببيروت. فرحت كثيراً لسؤال أبو حسام من داخل السجن عني، ربما أكثر من سؤالي عنه، أبلغني تحياته لي ولأصدقائه في صحيفة المستقبل.
لا يملك أبو حسام اليوم إلا الإنتظار، لا ليخرج من سجنه، بل ليعود لحياته اليومية التي ملأها العمل الدؤوب في محاولة جادة لتغيير الواقع السيء، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إعادة بناء المجتمع المدني السوري على أسس من إحترام الرأي الآخر وإحترام حقوق المواطنين، إعادة المواطنين إلى حقل الشأن العام. عمل شاق ودؤوب تنطح له مجموعة من الشجعان من بينهم فايز سارة، الذي يمزج عمله الشاق بابتسامة وروح دعابة لا تفارقه حتى داخل السجن.