مَنْ لسجناء الرأي في سورية؟
كل سجناء الرأي في سورية مثقفون. معظمهم كتاب وصحافيون وفنانون. وهم، بمعنى أوضح، ليسوا سياسيين. ويكاد من المستحيل على المرء أن يتخيل انهم يرغبون بسلطة، او أنهم يزمعون منافسة أحد على منصب. ولا أحد فيهم مجهولا من جانب السلطات الأمنية. وبما أنهم رواد مقاهي، فانهم يتحدثون بصوت عال، ويجاهرون في الكلام. وإذا كتبوا، فانهم لا يكتبون رسائل سرية. والصحف التي ينشرون فيها متداولة وغير ممنوعة في سورية. وهم أكثر من هذا وذاك مستقلون. بمعنى انهم ليسوا أعضاء في أحزاب مناوئة للسلطة. ولو عرضت عليهم عشرين حزبا مجانا لما اشتروا الواحد منها بقرش. فرديتهم، تمنعهم من الانخراط في أحزاب، فما بالك بنشاط يتطلب انضباطا حديديا؟
الكثير منهم اجتمعوا على إعلان سموه “إعلان دمشق”، صدر عن اجتماع عام، جرى في مكان معلن، وحضره مثقفون ومبدعون وأقلام لا يزيد عددهم عن 200 شخصا. وما كان أحد منهم يخفي وجهه. كل الوجوه كانت مكشوفة ومعروفة. يصعب القول، ان أي واحد منهم كان يعرف كل الحاضرين. فالمثقفون، في العادة، شُلل. والشُلل لا تعرف بعضها بعضا بالضرورة. ولكن هناك بالتأكيد طرف واحد يعرف بمفرده كل واحد منهم. يعرف أسمه وعنوانه وأين يعمل وماذا تعشى في الليلة السابقة: جهاز الأمن.
هذه “المعارضة” لم تكن تعتبر نفسها “معارضة” أصلا. وإذا كانت، فبصفة فردية وغير منظمة. بل أنها أقرب الى “الاعتراض” منها الى المعارضة.
بمعنى آخر، أنهم أحلى معارضة يمكن لأي نظام أن يحلم بها أصلا، مهما كان “متشددا” او “دكتاتوريا”. ولكي تزيد البركة حبة، فانهم بلا ارتباطات خارجية، بل انهم، إذ رأوا ما فعل “المعارضون” العراقيون الذين دخلوا “فاتحين” على ظهور دبابات “المحررين”، أرادوا (تحديدا وحصرا) أن يقطعوا الطريق على “معارضي الخارج” من ذوي الإرتباطات المماثلة. قالوا: هؤلاء خونة أو في أحسن الأحوال مشروع خونة. قالوا: الوطنية لم تنقص احرارا يسعون الى الإصلاح من اجل مصلحة سورية ووحدتها وسيادتها واستقرارها. وقالوا: ان المخاطر التي تتعرض لها سورية تتطلب “تعبئة جميع طاقات الوطن والشعب، في مهمة تغيير إنقاذية، تخرج البلاد من صيغة الدولة الأمنية إلى صيغة الدولة السياسية، لتتمكن من تعزيز استقلالها ووحدتها. وقالوا: انهم يريدون تغييرا من داخل النظام لمصلحة النظام. وكأي مثقفين آخرين، فقد قالوا “كلاما كبيرا” أيضا عن “التسلط الشمولي” و”انعدام السياسة في المجتمع” و”تهتك النسيج الاجتماعي” وأشياء غير مفهومة من هذا القبيل. إلا أن نواياهم ظلت واضحة حتى لأكثر الناس أمية. فهؤلاء مثقفون وطنيون يريدون لبلادهم خيرا، وكانوا خائفين على استقرارها من خطط العم سام لنشر الديمقراطية في المنطقة على ظهور الدبابات.
وفوق ذلك، فقد كانت السلطة نفسها خدعتهم بالقول انها تسعى الى الإصلاح. فظنوا بها خيرا، بينما كانت تتأبط لهم شرا.
يقول فايز سارة، وهو احد الكتاب والصحافيين المعتقلين، في مقابلة مع صديق جرت تحت إشراف ضابط في سجن عدرا: “في الواقع أنا لست غاضباً من اعتقالي، بقدر حزني وألمي من الطريقة الخاطئة التي تعاملت فيها الحكومة مع تجمع إعلان دمشق، وغيره من القوى الوطنية التي تطرح رؤى وطنية مختلفة عن رؤية الحكومة في إدارة شؤون البلاد وتطويرها وتقدمها، فنحن طلاب حوار قبل كل شيء؛ حوار يقبل الآخر المختلف؛ حوار ينبذ العنف، ويرفض أية تدخلات خارجية في إدارة شؤون بلادنا من أية جهة كانت، وعلى الحكومة أن تفرح من سلوك هكذا معارضة”، ولما سأله محدثه: ولماذا تفرح الحكومة من المعارضة؟ أجاب ضاحكاً: “نحن نعمل كمستشارين للحكومة، ونقدم لها النصائح مجاناً”.
شيء جميل ان يبذل الرئيس بشار الأسد جهودا للإفراج عن سجناء رأي فرنسيين في طهران. فهذا دور يعزز من مكانة سورية. ولكن السؤال يظل عالقا: مَنْ لسجناء الرأي في سورية؟
نراهن، على انه لا يوجد أفضل من الرئيس الأسد نفسه. ففيه من ثقافة المثقفين ووطنيتهم ما كان يمكن أن يجعله واحدا من الموقعين على إعلان دمشق.
……………………………………………….