المواطنة والفقر
عبد الحسين شعبان
تصبح المواطنة باتساع الفوارق الاجتماعية والاقتصادية محلّ تساؤل كبير، لاسيما وأن نسبة الفقر على النطاق العالمي وصلت إلى أكثر من %26 (أي ما يزيد على ربع سكان المعمورة)، إذ يعيش أكثر من مليار و300 مليون إنسان بدخل يومي لا يزيد عن دولار واحد. ولعل مهمة القضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة، خصوصاً في ظل مبادئ المساواة والحرية، يمكن أن يشكل جوهر فكرة المواطنة العضوية.
وبهذا المعنى، فإن القضاء على الفقر مهمة عالمية وإنسانية لها أولوية على جميع الصُّعد، وبدونها لا يمكن الحديث عن التنمية المستدامة بمعناها الإنساني، تلك التي تحتاج إلى الصحة الجيدة، والمستوى العالي من التعليم، والحصول على الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق، وحرية التعبير والتنظيم، والحق في المشاركة، وحق الحصول على المعرفة لتحقيق شروط الرفاهية.
ولعل مهمة القضاء على الفقر تتطلب تعزيز احترام حقوق الإنسان، بما فيها حماية حقوق الفئات الأكثر حرماناً، كالمشردين (النازحين) واللاجئين والمهجرين، وكذلك حماية حقوق المرأة والطفل وحقوق الأقليات، أفراداً وجماعات، بما يضع مسؤوليات على الحكومات بالدرجة الأساسية، وعلى عاتق المنظمات والهيئات المدنية وغير الحكومية وجميع المواطنين للتمتع بالقدر المعقول من الكرامة والحرية، وبمستوى مقبول من الرفاه المادي والروحي، وفقاً لتوازن الحقوق والواجبات.
وكانت هذه القضايا محل نقاش في برلين في مارس 2008، حيث أُطلقت مبادرة للمشترك الإنساني، أو ما سمي بالقواسم العالمية المشتركة للتشاور الدولي، ساهم فيها العديد من الأصوات أفراداً ومنظمات للمجتمع المدني من جنسيات وأمم وديانات مختلفة.
وأكد اجتماع برلين الذي يمكن أن يتحوّل إلى سيرورة من خلال خطة عمل طموحة، على ربط المبادئ بالقيم والأخلاق، وذلك لتحقيق أهداف الألفية الثالثة. وكان كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، قد طرحها خلال خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر 2000، حين دعا إلى اعتبار حقوق الإنسان قيمة عليا، واحترام قيم السلام والتسامح وتحقيق التنمية والقضاء على الفقر. وكان بابا الفاتيكان بينيديكتوس السادس عشر قد أكّد على المعايير المشتركة التي تجمع القيم الإنسانية القائمة على الأخلاق والمبادئ، وذلك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لدى زيارته للولايات المتحدة مطلع أبريل 2008، حين أكد على أهمية احترام حقوق الإنسان.
وإذا كانت ثمة هموم إنسانية مشتركة للبشرية جمعاء، مثل التغيرات المناخية وتأمين الطاقة وتوزيع عادل للمياه ومشكلات الغذاء والتصحر وقضايا البيئة والاحتباس الحراري والتنوع الثقافي، فإن الفقر يشكل عموداً فقرياً ناظماً لتلك القضايا جميعها، إذ بدون مواجهته والقضاء عليه لا يمكن للبشرية أن تخرج من غلوائها وأن تسير الخطى حثيثاً نحو المشترك الإنساني، القائم على احترام الخصوصيات وتفعيلها لرفد المعايير الدولية واحترام حقوق الإنسان والشعوب والأوطان، والتواصل الحضاري والتعاون الدولي لحل المشكلات التي تواجهها.
ولا شك أن معالجة تلك الظاهرة تحتاج إلى قواعد عمل مشتركة قانونية وأخلاقية تعزز ما هو قائم من مبادئ للقانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الإنساني، بحيث لا يتم توظيفها واستخدامها لأغراض أنانية ضيقة أو لمصالح ذاتية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالمؤسسات والمنظمات المسيطرة على التجارة العالمية، وبناء ثقافة السلام والأمن الإنساني على النطاق المحلي والإقليمي والدولي، وهذا الأمر يحتاج إلى تراكم طويل وتغيير تدريجي في ميزان القوى، وحشد أكبر لطاقات الشعوب والدول.
ولعل مسؤولية تصحيح مسار العلاقات الدولية لا تقع على عاتق الحكومات وحدها وإن كانت تتحمل المسؤولية الأساسية، لاسيما القوى المتنفذة في المجتمع الدولي وهيئاته بما فيها الأمم المتحدة، خصوصاً وأن استمرار ظاهرة الفقر قد أفرزت موجات جديدة وغير منضبطة من الإرهاب واللاجئين والحروب والعنف، ويحتاج الأمر إلى تعاون أصحاب المشاريع الخاصة (القطاع الخاص)، إضافة إلى مسؤولية المجتمع المدني، إذ إن الأضرار الناجمة عن عدم قيام عدالة على المستوى الدولي وهدر حقوق الشعوب والأوطان والإنسان ليست مادية فحسب، بل تحمل أضراراً معنوية ونفسية تتراكم وتتفاعل لتغذي التطرف والتعصب والعنف، وهي التي تزداد سوءاً لاسيما باستمرار ظاهرة الفقر وعدم التوزيع العادل للثروة وتوفير الفرص المتكافئة.
لا يمكن بأي حال ونحن نتحدث عن مواطنة عصرية أن نفصل السلم المجتمعي عن مبادئ حقوق الإنسان، لاسيما في ظل تهميش فئات واسعة، وهضم الحقوق، واستمرار ظاهرة الفقر والأمية والمهجرين قسرياً، والتجاوز عن حقوق المرأة والأقليات والمهمشين.
هناك علاقة عضوية بين الفقر والإقصاء ودور القانون، لاسيما في ظل أوضاع يعيشها الفقراء والمهمشون الذين يعملون خارج نطاق القانون، ما يعرضهم للمساءلة والمعاناة من جهة، ومن جهة أخرى لسوء الاستغلال، الأمر الذي يرجح فكرة تدقيق الأطر القانونية من جانب الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني لتكييفها بما يتناسب مع الحكم الصالح. وقد سعت إحدى المبادرات الدولية التي اتخذت من عنوان هيئة التمكين القانوني للفقراء، وهي مبادرة عالمية، إلى تقويم حالة 26 بلدا من بينها أربعة بلدان عربية هي مصر والأردن والمغرب واليمن.
الفقر حالة مركبة، لاسيما وأن مظاهره متعددة، ولذلك، ينبغي التعامل معه بجدية ويقظة شديدتين، خصوصاً وأن استمراره يعتبر انتقاصاً وبتراً للمواطنة، وأن تفاقمه يؤدي إلى نتائج وخيمة، فكيف تستقيم مواطنة حيوية وعضوية وكاملة في ظل شحة الدخول وضعف الموارد المنتجة الكافية لسبل العيش الطبيعية؟
إن الجوع وسوء التغذية، ناهيكم عن عدم كفاية فرص الحصول على التعليم وتنمية المهارات واكتساب المعرفة والحصول على سكن مناسب وماء صاف وصرف صحي وبيئة مناسبة وحقوق المرأة والطفل ومعرفة بالصحة الإنجابية، كل هذه الأمور ستنتقص من المواطنة وتجعلها عرضة للاهتزاز، إذ لا يمكن الحديث عن مواطنة دون عمل مناسب وحق في التطبيب وحق في الضمان وحق في التمتع بوسائل الثقافة، وقبل كل شيء الحق في التخلص من الفقر والحق في العدالة الاجتماعية.
الحوار المتمدن