سؤال العصر: الحرية أم التسليع؟
محمد الحدّاد
مقولة «نهاية الأيديولوجيا» كانت مقولة مزيفة. ها أننا نعود لنعيش عصراً انتقل التناقض الرئيسي فيه من المواجهة بين الاشتراكية والليبرالية إلى المواجهة بين ليبرالية إنسوية وليبرالية فجة متطرفة. الليبرالية من الصنف الأول هي التي تدعو إلى توسيع دائرة الحرية: حرية التنقل للأشخاص والسلع ورؤوس الأموال، وحرية الفكر والتعبير والإبداع، لأنها تؤمن بأن الفرد لا يحقق ذاته إلا من خلال حريته وبفضل فتح المجال لمبادراته في كل الميادين. والليبرالية من النمط الثاني تسعى إلى توسيع دائرة التسليع، شعارها: لنجعل من كل شيء سلعة، حتى القيم الأساسية التي يعيش عليها ومن أجلها الإنسان.
وقد أصبح النمط الثاني من الليبرالية الأكثر قوة وسيطرة لأنه ارتبط بالمضاربات المالية، فعلى عكس النمط الأول الذي ارتبط تاريخيا بنموذج المؤسسة، وما ترتب على هذا النموذج من ضرورة العقلنة، فإن النمط الثاني قائم على تحين الفرص والتخطيط على المدى القصير لتحقيق أكثر ما يمكن من الأرباح، أي أن عنصر العقلنة فيه ذو طابع أداتي بحت. وينبغي الاعتراف مع ذلك أنه نجح إلى حدّ الآن في أن يكون جذاباً وقوياً وناجحاً، وهناك مثال جيد يختصر إمكانات نجاحه كان قد ذكر كثيراً في الأزمة المالية لسنة 1998، فقد حقق آنذاك مصرف «سيتي بنك» بفضل 350 مضارباً أرباحاً بـ552 مليون دولار جناها من المضاربة في أسعار العملات. وفي الفترة نفسها حققت مؤسسة «بيجو» لصناعة السيارات التي تشغل 140 ألف عامل أرباحاً بـ330 مليون دولار. وتبين مع الأزمة المالية الحالية أن للمضاربات حدوداً ومخاطر، وأصبح «سيتي بنك» نفسه مهدداً بالإفلاس، لكن مبدأ المضاربة ما زال جذاباً ولا يبدو أنه مهدّد، لأن النظام المصرفي هو عصب الحياة الاقتصادية الحديثة، وفي حالات الأزمة تتدخل الدول، بل تضطر إلى ذلك اضطراراً، كي لا تعيد كابوس أزمة 1929 عندما طبقت الليبرالية تطبيقاً حرفياً ولم تتدخل السلطات العمومية للحدّ من آثار الانهيار المالي.
فالمبدأ الذي يبدو أنه أصبح متحكماً اليوم في اقتصاد العولمة يمكن أن يصاغ في عبارة «خصخصة الأرباح والاشتراك في الخسائر»، وهذه نتيجة طبيعية لتحوّل العلاقة بين السوق والدولة، الطرف الأول هو المستخدم والثاني هو الخادم، وليس العكس. وإذا لم تكن قضية النجاعة هي التي تحدّد قيمة نمط، فلم يبق غير القيمة، أي الأيديولوجيا، للحكم عليه بالرفض أو القبول.
إذاً، ينبغي أن لا تنطلي على عقولنا فكرة أن النضال من أجل القيم والمبادئ قد ولّى، أو أن ما نشاهده من أزمات هي قضايا عابرة أو تقنية وستعدّل من تلقاء نفسها. ينبغي أن لا نستسلم لوهم العولمة المطمئنة التي يسيرها اقتصاديون جديرون وحدهم بصفة العلماء والخبراء. إنّ الوضع هو أبعد ما يكون عن ذلك. ثمة معركة جديدة قد بدأت ولا يمكن حسم الموقف فيها بتقارير الخبراء، إنها أيضاً معركة فلسفية، بل عقائدية، لأنها تتطلب الاختيار المبدئي بين رؤيتين للكون: رؤية تقوم على الحرية ورؤية تقوم على التسليع.
ماذا يراد من التعليم مثلاً؟ أن يكون فرصة لنقــــل المعارف للمتعلمين بطريقة أقرب ما تكون إلى موضوعية كي تتوافر لهم الفرصة مستقبلاً فــي المساهمة في بناء المجتمع؟ أم يكون سلعة من السلع تتحكم فيها قواعد العرض والطلب والمضاربات بمختلف أنواعها؟ وماذا يراد للصحة؟ أن تكون حقاً لكل مريض يكفله التضامن بيــــن مجموعة من البشر؟ أم تكون شيئاً مطروحاً للمضـــاربة والربح، فمن كان عاجزاً عن الدفع لا يدفـــع عـــن نفسه وأسرته العلل والأمراض؟ وماذا يراد بالثقافة؟ أن تكون وسيلة لتوفّر الحوار من أجل المشاركة الجمعية في الشـــأن العــام، فضلاً عن تعميق إنسانية الإنسان كـــي لا تكون حياته عملاً للاستهلاك واستهلاكاً للعمـــل؟ أم هي صناعة من الصناعات تحتكم إلى قــــوة الإشهار وتتلاعب بالعقول، لا من أجل مبدأ أو فكرة بل من أجل الترويج التجاري؟
لا تشهد المجتمعات العربية الكثير من الجدال حول هذه القضايا، لأن الناس يعتبرونها ثانوية بالمقارنة بقضايا أخرى يصفونها بأنها مصيرية. وسبب ذلك أن اندماج هذه المجتمعات في العولمة يظلّ محدوداً، فيبدو لها أنها قادرة على نحت مصيرها خارج المصير الكوني للإنسانية. لكن هذا المصير الكوني سيتحدّد نتيجة المواجهة بين الحرية والتسليع، فهذه المواجهة هي المحرك الجديد للتاريخ، وسيحكم المثقفون العرب على أنفسهم بالتهميش إذا ظلوا يلوكون القضايا القديمة ويضربون صفحاً عن سؤال العصر: ما هو النمط الليبرالي الذي يبدو لك الأصلح؟
خارج الليبرالية لا يوجد شيء، لكن داخلها توجد مسالك عديدة، لذلك لن تتوقف العقول عن التفكير ولا الأقلام عن التراشق ولا الإرادات عن النضال، فلكلّ عصر معاركه المميزة.
الحياة