صفحات مختارةياسين الحاج صالح

من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره…

null
ياسين الحاج صالح
في السنوات الأخيرة، التالية لحدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، برز بوضوح تيار فكري عربي وعالمي يفسر أوضاع العرب بثقافتهم، ويزكي حلولاً ثقافية لمشكلاتهم العويصة، ويقرر أنه من دون هذه الحلول ستمعن أوضاعهم في التردي، وربما «ينقرضون». لم ينبثق هذا التيار من رحم الحدث الإسلامي الأميركي في مطلع هذا القرن، لكنه اكتسب منه زخماً كبيراً. كان آخذاً بالظهور منذ ثمانينات القرن العشرين، بالتوازي مع طفرة الكتابات التراثية يومها، وبالتعارض أيديولوجياً مع التوجه الغالب عليها، وكنوع من رد الفعل على الاقتصادوية الماركسية التي كانت تمعن حينها في الجمود نظرياً وسياسياً.
على أن رد الفعل الثقافوي هذا ينسخ تماماً البنية الذهنية للاقتصادوية. كان تحليل اقتصادي مبتسر شاع بين ستينات وثمانينات القرن السابق يقرر أن الاقتصاد أساس المجتمعات، وأن نمط الإنتاج المادي يحدد العلاقات السياسية والثقافية والحقوقية في المجتمع المعني، بوصف هذه بنى فوقية لا تتغير من دون تغير نمط الإنتاج الذي هو البنية التحتية. الكلام على استقلال ذاتي نسبي للسياسة والثقافة، وعلى أنهما يردان التأثير في الأساس الاقتصادي التحتي، دخل التداول عربياً منذ السبعينات، لكنه ظل خطابياً، يحيل إلى حرج من الاقتصادوية التي كانت توصف بالميكانيكية من دون أن تتشكل في نسق نظري متسق.
هذا ما ورثته الثقافوية التي شرب بعض أساطينها من الماء الاقتصادوي لوقت كاف. الثقافة هنا، مردودة في الغالب إلى الدين، هي التي تفسر السياسة والمجتمع والقوانين والأخلاقيات (وربما الاقتصاد أيضاً)، فضلاً عن موقع العرب العالمي وتفاعلاتهم الدولية. فإن لم تتغير الثقافة ستبقى أوضاعهم دون تغيير.
وتشترك الثقافوية والاقتصادوية في الحتموية، على مستوى التفسير (الاقتصاد هو «المستوى المحدد»…) أو على مستوى العمل (تغيير الاقتصاد شرط شارط لأي تغيير). قد يقال شيء عن «الاستبداد» وعن أوضاع جيوسياسية غير ملائمة، لكنه يبقى خارج الإشكالية، مجرد ألفاظ لا دلالة فاعلة لها.
ما ترتب على 11 أيلول هو رفع عتبة نقد هذه النظرية التبسيطية أو تسهيل القبول بها. كل العالم يتكلم على الأصولية الإسلامية وعلى الإرهاب الإسلامي وعلى التعثر الحضاري العربي والإسلامي… ما يقلل من الترددات والوساوس حيال نظرية كان يمكن أن تظهر تحفظات أقوى حيالها في سياقات عالمية أقل ثقافوية وأدنى تركيزاً على الإسلام والإسلاموية.
لكن الإسهام الأبرز لتفاعلات ما بعد 11 أيلول تمثل في تقوية اتجاهات كانت سابقة له، وتعود أقرب أصولها إلى ثمانينات القرن الماضي أيضاً، أعني الجنوح اليميني غربياً، ثم الميل الذي ظهر في التسعينات إلى رؤية العالم كتراصف «حضارات» منفصلة عن بعضها ونزاعة إلى التصارع في ما بينها، الإسلامية منها بخاصة ضد الغربية منها بخاصة. هذا الضرب من المقاربة الماهوية لا يختلف عن ضروب سابقة له إلا في تمحوره حول فكرة الحضارة أو الثقافة (المردودة أيضاً إلى الدين). سبــــق أن أسندت الفوارق إلى الأعراق: سود وبيض وصفــــر… وإلى اللغات: سامية وآرية…، وإلى الجهات الجغرافية: شرق وغرب…، وإلى الأديان ذاتها دوماً.
ويبدو لي أن شتى تنويعات المذهب الماهوي تتناسب مع أوضاع وعلاقات امتيازية، وتعكسها وتعمل على تسويغها وتثبيتها. كانت ضروباً من ماهوية العرق أو اللون أو الدين هي التسويغات الأنسب للتوسع الاستعماري الأوروبي. وكانت الاقتصادوية الماركسية، مستندة إلى ما قد يسمى ماهوية الطبقة، سوغت استبداداً شمولياً كاسحاً حيثما فُرضت كمذهب رسمي. وتنويعات الثقافوية عربياً تجد نفسها قريبة بصورة ثابتة من هياكل السلطة الاستبدادية والامتيازية في مجتمعاتنا المعاصرة، وهي صريحة كفاية في الاعتراض على الديموقراطية بحجج تنسخ حرفياً ما كان يقال عن «الأكثرية العددية» أو «أكثرية الكم» في جنوب أفريقيا العنصرية.
إلى ذلك، الصلة وثيقة بين الماهوية كمقاربة واحدية تعرّف المجتمعات التاريخية بعنصر واحد يفترض أنه يمثل جوهرها أو روحها (الشريرة التي ينبغي التخلص منها، أو الخيرة التي ينبغي الحفاظ عليها) وبين الحتموية نظرياً وسياسياً. هذه لا توجد دون تلك. فإذا كان الإسلام روح مجتمعاتنا، وإذا كانت كل جوانب حياتها تتحدد به، فإنها لن تنهض إلا بالعودة إليه (والإسلاموية معرّفة على هذا النحو نزعة ثقافوية وحتموية مثل غيرها، ومثالها الامتيازي للتنظيم الاجتماعي لا جدال فيه)، أو لن تنهض إلا بتقييده وعزله سياسياً (على ما تقول صيغة علمانية للثقافوية).
لا يستطاع، بالمقابل، التخلص من الحتموية من دون التخلص من الواحدية لمصلحة رؤية أكثر كثروية وتركيباً للمجتمعات العيانية وللعلاقات الدولية. الرؤية الكثروية تقترن بهياكل وعلاقات سلطة أكثر ديموقراطية وانفتاحاً. لقد اقترنت ثورة العلوم الاجتماعية في الغرب منذ القرن التاسع عشر وما واكبها من تنوع المقاربات النظرية والتعدد المنهجي، بانفتاح مطرد لنظمه السياسية والاجتماعية. فيما اقترن الاستشراق، ولطالما كان اختزالياً، ومتأخراً منهجياً عن المتاح العلمي في بلدان المستشرقين (كما لاحظ كثيرون من نقاده) بعلاقات سلطة هيمنية مع المجتمعات «الشرقية» المدروسة. ولقد ارتبط صعود الحضاروية في أميركا بسياسات يمينية ومحافظة في الداخل الأميركي قبل غيره. وهل يمكن إنكار الصلة بين الإعلان المتعجرف عن انتهاء التاريخ وبين الثقة الدوغمائية العمياء بآليات السوق والاسترخاء المفرط لأصحاب الامتيازات، وقد أفضيا، بعد «انتهاء» التاريخ بنحو 15 عاماً، إلى أزمة اقتصادية تذكر بأيام مفرطة في تاريخيتها قبل نحو ثلاثة أرباع القرن؟
وقد يفيد هذا التحليل لبلورة استخلاص سياسي نراه ضرورياً للعمل الديموقراطي في العالم العربي. الديموقراطية تتعارض منهجياً وفكرياً مع التركيز الحصري والأحادي على الاستبداد، أو حتى على السياسة وحدها (كما بالطبع مع الثقافوية والاقتصادوية). هذه المقاربة السياسوية، الحتموية بدورها (تنزع إلى تفسير كل شيء بالاستبداد، وإلى إشراط كل تغيير بزواله)، أنسب لتغذية الاستبداد، إن على المستوى الحكومي أو على مستوى تنظيمات المعارضة الديموقراطية ذاتها. وبينما قد تكون معبّأة على المدى القصير وحين يكون الاستبداد في أزمة، فإنها لا تصلح أساساً لتنشيط العمل الديموقراطي وتجدد الفكر الديموقراطي على المدى الأطول.
للمذاهب الثلاثة، الثقافوية والاقتصادوية والسياسوية، بنية مشتركة تقوم على الماهوية والواحدية والحتموية. إنها مذاهب تعبئة وتحشيد، ربما يتشكل حولها عصبة أو رابطة، لكن ليس معرفة مفتوحة، ولا سياسة تحررية.
كانت حصيلة الاقتصادوية هزيلة في مجال الاقتصاد أولاً. ومثلها، ليس في سجل الثقافوية ما هو أساسي في مجال الثقافة. وليس من شأن السياسوية أن تكون أفضل إنجازاً في المجال الذي تفضل أن تعرّف نفسها بها. هذا طبيعي. إنه عقم الواحدية.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى