العمل التطوعي.. عطاء أم منـّة؟
من تأليف تمّوز
تستوقفني اليوم ظاهرة العمل التطوعي، والتي باتت في هذا الوقت من ألمع المظاهر الانسانية وأكثرها اجلالا. لا تستوقفي الظاهرة بحد ذاتها و إنما يستوقفني مفهوم العمل التطوعي في بلادنا بشكل أكبر.
كما يعلم الجميع، فإن العمل التطوعي هو نشاط أو جملة من النشاطات المجانية، فردية كانت أم جماعية، المكرسة للخدمة الإنسانية بالدرجة الأولى والتي توسعت دائرتها لتشمل كل مناحي الحياة بالمعنى الواسع جداً للكلمة. و قد عرفه الإنسان تحت صيغة التعاون المشترك و تناغم مع وضعه الاقتصادي والاجتماعي في مرحلة الصيد والالتقاط المبكرة ومن ثم في مرحلة الزراعة، ليصل في عصر الثورة الصناعية و الثورة الاشتراكية إلى قمة مراحله التنظيمية. من هنا فالعمل التطوعي ليس غريباً علينا وليس هو الآخر مستحضر غربي يقدم إلينا على طبق الحضارة الغربية. إن نظرة سريعة إلى إحدى مواسم الحصاد في ريفنا لكافية لتعطينا فكرة عن حضور هذا المفهوم في ثقافتنا وإن تراجع جداُ عما كان عليه من ذي قبل.
لكن مع الضائقة المادية والثقافية، وروح التخلف المعشعشة في عقليات وأدبيات التعليم في مجتمعنا التي تزرع في عقول الصغار قبل الكبار مفهوم العمل التطوعي كعمل اجباري أو كواجب بدون التطرق إلى المفهوم الانساني. فأنا شخصياُ في أحد معسكرات (شبية الثورة) لم أكن أشعر وأنا أُسُاق مع مجموعة من الطلاب الآخرين لتنظيف حوض نهر بردى، إلا بشعور المساق إلى عمل سخرة مهين، والذي كان من المفروض له أن يحمل كل معاني العمل التطوعي لفتية في مقتبل العمر، فمن كلمة المشرف يتبين لك أنه عمل سخرة فهو يقول: عليكم بتنظيف النهر اليوم! دونما شرح لماذا النهر وسخ، لماذا ننظفه ومذا يعني مثل هكذا عمل؟!. أعتقد أنه نفسه لم يكن يعلم لماذا علينا تنظيف التهر!
من جانب آخر، نرى أن مفهوم العمل المدفوع الأجر له طابع غريب. فأنت عندما تقبض راتبك أو تأتيك زيادة أو علاوة، فإنها تفدم إليك كمنة لا كحق. لعمري هذا يذكرنا بعصر الاقطاع عندما كان الفلاح المسكين يكد ويشقى كل فترة السنة، وفي آخرها يمن عليه الاقطاعي بما يريد ويكون الفلاح شاكراً ممتناً عظيم الامتنان. لسنا بأحسن حال من تلك الأيام الغابرة بالرغم من كل ثوراتنا وانتفاضتنا على ذاك الواقع، فنحن لازلنا نقول: (لحم كتافنا من خيرو). بمثل هذه العقلية المتخلفة لا أظن أن مثل هكذا مجتمع بقادر على فهم العمل التطوعي المجاني دونما اعتباره منة أو واجب!
إن العمل التطوعي بحد ذاته يتطلب القدرة العالية على العطاء دونما منة أو انتظار مقابل. إنه لشكل من أشكال الحب فهو يعطي ولا يكترث بالرد, يهب لا لشيء سوى حباً فالمتطوع يجد ذاته في هذا العطاء, تمتلكه نشوة الوجود حينما يرسم ابتسامة على وجه إنسان, أو عندما يحرر شارعاً من أوساخ الزمان. لا يمكن لنا أن نحب بدون عطاء, ولا يمكن أن يكون هناك عطاء بلا حب. كيف لانسان أن يقبل على دمشق محباً معجباً هائماُ بسحرها ملقياً بها أشعاراً, فيعبث فيها وسخاً و يتملص من أي مبادرة تطوعية لرسم ابتسامة على خدها المجعد. لعمري حتى الحب لدينا لمشوه!
مثل ذلك العطاء يتطلب إيماناً بالذات وبمقوماتها وبمهاراتها الشخصية لتوظيفها في العمل التطوعي، من هنا نستقرأ اجهاض وأحياناً وأد لكل المحاولات الجدية للعمل التطوعي. فليس فقط الجهل الكامل لمفهوم العمل التطوعي هو السبب، فالجهل بالقدرة الذاتية هو المصيبة الأكبر. فإنساننا المقهور المغلوب على أمره و المتواري خلف صعوباته وعراقيل هموم حياته والمتباهي بجبنه, يخلق حساً سلبياً من اللامبالاة منقطع النظير.
في خضم هذه المعمعة الكبيرة تنبثق روح التطوع والمبادرة للعديد من الأشخاص، لكن القليل منهم ينجو من سهام الاحباط المسمومة الموجه من مجتمعنا متمثلة بالجهلة وحتى بالمثقفين المسطحي العقول الذي يرمون أصابع الاتهام والتشكيك إلى أي مبادرة تطوعية، ناهيك عن غياب مطلق للأنطمة والقوانين الناظمة والمعرفة بالأعمال التطوعية.
أخيراً, إن العمل التطوعي ليس نخوة المبادرة وحس بالواجب منبثق من مفاهيم دينية واجتماعية وحسب بل إنه أيضا عمل مدروس ومنظم يتطلب بادئ ذي بدء فهم وادراك كامل للمهارات الشخصية، وحب لا بل شغف بعمل ما يدفع المرء لتوظيف كل طاقاته لخدمته وخدمة الحياة بكل مناحيها الاجتماعية والثقافية و البيئية، و تقديم عطاء دونما منّة أو انتطار أجر ماديا ً كان أم معنويا.
العمل التطوعي.. عطاء أم منـّة؟
مدونة خارج الزمكان