الأخلاق والسياسة

سعد محيو
هل يمكن أن تكون اللاأخلاق هي الأساس الحقيقي للمواقف الأخلاقية؟
المعادلة تبدو مستحيلة. لكن ليس في “الغرب الديمقراطي”، الذي نجح طيلة 500 سنة، وعلى نحو مُذهل، في وضع جياد الأخلاق خلف عربة المصالح، مدّعياً أن الشعوب “البربرية أو غير المتحضرة”، تنظر ولاترى ولاتفهم كُنْه ماتشاهد.
هذا كان منطق الغرب الأمريكي حين أعمل “السيف الحضاري” في رقاب الهنود الحمر “المتوحشين”. وهذا ما فعله قبلهم الصليبيون، حين حوّلوا لحوم المسلمين إلى شواء على مداخل حلب عامي 1098 و1124 (م) وهم يرددون كلمات البابا أوربانوس المقدسة: “اشوِ عدوك بمحبّة”. لا بل هذا مايفعله حالياً المتطرفون الإسلاميون الذين يلوثون أيديهم بدماء إخوانهم المسلمين وهم يرفعون شعارات الطهارة الأخلاقية.
الآن جاء دور جوردون براون لممارسة هذه اللعبة. فهو بعد أن أطلق سراح المقرحي لتسهيل صفقات شركات النفط البريطانية مع طرابلس (مما أثار غيرة وغضب شركات النفط الأمريكية)، ادّعى أنه فعل ذلك ل”أسباب إنسانية”. وهو بعد أن رفض، لأسباب مماثلة، مطالب العائلات البريطانية المطالبة بتعويضات مالية أسوة بضحايا لوكربي لأنها فقدت أفراداً منها بسبب دعم ليبيا للجيش الجمهوري الأيرلندي، غيّر رأيه وانضم إلى هذه العائلات بعد أن اهتز وضعه السياسي في الداخل.
ومجدداً، استخدم براون أوراق الاعتماد الأخلاقية، مدّعياً أنه غلّب المواقف المبدئية على المصالح الدنيوية.
بالطبع، قد تدفع هذه المواقف العديدين منا إلى لعن ظلام هذا النظام البشري القميء، الذي تُبشّر فيه المومسات بالعفّة، ويُصبح المجرمون قضاة، والكذابون أنبياء الصدق.
وهم على حق، لكنهم ليسوا على صواب. لماذا؟
لأنه الأجدى أن نقوم جميعاً بدعم خطوة براون بكل الحماسة الممكنة، فنطالب ليبيا بالتعويض عن العائلات البريطانية كما عوّضت العائلات الأمريكية.
لكن هذا يجب ألا يكون بلا مقابل. وهذا الأخير يجب ألا يقل عن موافقة الغرب، كل الغرب، على المعاملة بالمثل. بعض “الفواتير”:
تعويض العرب عن الكوارث الإنسانية والوجودية الهائلة التي ألحقتها بهم مؤامرة سايكس بيكو البريطانية- الفرنسية السرّية، وما تلاها من تشريد مليون فلسطيني عن أرضهم.
تعويضات لآلاف العائلات المصرية التي فقدت العديد من أحبائها في حرب السويس العام 1956.
تعويض اللبنانيين عن الحروب المدمّرة التي خاضتها “إسرائيل” ضدهم في الأعوام 1978 و1982 و2006.
تعويض العراقيين عن مقتل ما لايقل عن مليون شخص منذ الغزو الأمريكي لوطنهم العام 2003.
ثم، تعويض العائلات الليبية عن القصف الجوي الأمريكي في 15 نيسان/إبريل 1986 والذي أزهق أرواح 100 فرد على الأقل من أفرادها.
هذه لائحة مقتضبة للغاية. لكنها قد تكون كافية في هذه المرحلة لترتيب وضع الهرم الأخلاقي المقلوب على رأسه في العالم، وإعادة ارسائه مجدداً على قاعدته.
هذه قد تبدو مهمة صعبة أو حتى مستحيلة، لكن الأمر ليس كذلك. كل ما نحتاجه هوالقليل من الانفعال والكثير من الخيال.
فحين يُجبر الغرب، الذي اعتاد طيلة العصور الحديثة أن يكون السجّان القاضي والمدّعي العام، على الوقوف وراء قضبان المحاسبة، فقد يضفي ذلك ولو مسحة سريعة من نفحة الأخلاق على جبين تاريخ يعج بالرياء والنفاق والازدواجية.
الخليج