اليابان تستقل عن أميركا.. وعن إسرائيل؟
سمير كرم
لم تكد تعلن نتائج الانتخابات العامة اليابانية الاخيرة في 31 آب/اغسطس الماضي حتى كانت صحيفة «ها اريتس» الاسرائيلية المستقلة تنشر تحليلاً عن احتمالات قوية لحدوث تحول جذري في سياسة اليابان تجاه اسرائيل بعد ان تمكن الحزب الديموقراطي الياباني من الفوز على الحزب الليبرالي الديموقراطي الذي حكم اليابان طوال نصف قرن بلا انقطاع.
قالت «ها اريتس» إن الحزب الديموقراطي يسعى لأن يراه الرأي العام الياباني والعالمي كحزب في يسار الوسط وأن سياسته الخارجية ستهدف الى الابتعاد عن التصاق اليابان المستمر بالولايات المتحدة، لتكون اليابان اكثر استقلالية في السياسة الخارجية وأكثر ارتباطاً بالصين ودول آسيا الاخرى منها بأميركا. ومعنى هذا ان الحزب سيبتعد باليابان عن تأييد الحرب الاميركية في أفغانستان. وانتهى هذا التحليل الى ان توجهات اليابان في ظل حكم الحزب الديموقراطي لن تكون مريحة لإسرائيل، لأنها ستكون اقرب الى تأييد العرب والقضية الفلسطينية.
لم يفت الصحيفة الإسرائيلية ان تشير الى ان زعيم الحزب الديموقراطي الياباني رئيس الحكومة الجديدة يوكويو هاتوياما اطلق على نفسه وصف «اوباما الياباني» اثناء الحملة الانتخابية، واستنتجت أنه فيما يتعلق بإسرائيل يمكن ان ينسق اوباما الاميركي وأوباما الياباني سياستاهما في اتجاهات لا تتوقعها إسرائيل. بل إنها توقعت ان تقدم حكومة هاتوياما على الاعتراف بحماس وعلى طلب إجراءات من جانب اسرائيل تعتبرها متشددة لصالح الفلسطينيين، بما في ذلك تجميد النشاط الاستيطاني. وفي هذا الصدد لا تتوقع ها اريتس ان يتسبب هذا في اي مواجهة بين طوكيو وواشنطن ـ بل انه سيكون مدعاة لسرور أميركي (…).
وكان السفير الإسرائيلي في طوكيو نسيم بن شيريت قد شارك في مؤتمر للحزب الديموقراطي الياباني ضمن حملته الانتخابية في شهر كانون الثاني/يناير الماضي. وفي ذلك المؤتمر التقى السفير الاسرائيلي بزعيم الحزب الذي اعرب عن قلقه العميق ازاء أعداد القتلى الفلسطينيين الذين سقطوا ضحايا لحرب اسرائيل على غزة، وأعرب هاتوياما عن امله في ان تغير اسرائيل سياساتها تجاه العالم العربي على النحو الذي جرى في الولايات المتحدة منذ انتخاب الرئيس باراك اوباما.
ويمكن لنا ان نتوقع ردود افعال يابانية اوسع نطاقاً بكثير من النطاق الحكومي كنتيجة لفوز الحزب الديموقراطي في الانتخابات، وفقاً لبرنامج سياسي يعد بالخروج من حالة الوصاية الاميركية على سياسة اليابان الخارجية. ذلك ان المشاعر العامة السائدة في اوساط الرأي العام الياباني فيما يتعلق بإسرائيل والفلسطينيين والعرب ستجد المجال قد اتسع امامها للتعبير عن غضب حقيقي تجاه اسرائيل واهتمام بكسب صداقة العرب واحترامهم .. فضلاً عن مشاعر التأييد التي تسود بين اليابانيين تجاه الشعب الفلسطيني.
بل يمكن ان نرصد من الآن مخاوف المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا من احتمالات «تفجر موجة من العداء للسامية». داخل المجتمع الياباني، يرى كثيرون من الكتاب والمحللين المعنيين ـ على اختلاف مواقفهم من ظاهرة «العداء للسامية» ـ انها ستجد مجالات اوسع للتعبير عن نفسها عندما تبدأ اليابان في ظل حكومتها الجديدة تنفيذ سياسة يابانية في الشرق الاوسط لا تمليها العلاقات بين اليابان والولايات المتحدة.
[[[
ان كتابات يابانية كثيرة ترجع بوجود نزعة عداء للسامية لدى اليابانيين الى وقت الحرب العالمية الثانية، وبسبب التحالف الذي كان قائماً بين اليابان وألمانيا النازية آنذاك، وقبل ذلك الى اوائل القرن العشرين عندما ترجم كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الى اليابانية. وأعقب ذلك قيام الجيش الياباني بأبحاث بشأن «مؤامرة اليهود للسيطرة على العالم»، بما في ذلك اليابان. وهي أبحاث لم تنته الى نتائج محددة. وإن كان قد شاع في أعقابها ـ على سبيل المثال ـ ان اسم «اينولا غراي» الذي اطلق على الطائرة التي القت القنبلة الذرية الاميركية على هيروشيما يعني في اللغة العبرية «اقتلوا الامبراطور». وشاع ايضا ـ على النقيض من ذلك ـ ان اليهود اتخذوا موقفاً إيجابياً من احتلال اليابان لمنطقة منشوريا الصينية وامتدحوا ادارة الاحتلال الياباني لها. الامر الذي ادى الى تحسين موقف اليابان الرسمي من اليهود.
مع ذلك فقد انتشرت في اليابان كتابات روائية وبحثية كثيرة عن مؤامرة اليهود وأخطارهم على اليابان والثقافة اليابانية. ولا تزال هذه الكتابات شائعة ومتاحة في المكتبات الكبرى في انحاء اليابان. ولعل من اشهرها كتابا بعنوان «اسرار السلطة اليهودية التي تسيطر على العالم» (1984)، كذلك اصبح ضمن قائمة اكثر الكتب رواجاً في اليابان كتاب آخر بعنوان «السنوات العشر القادمة: كيف تقرأ البروتوكولات اليهودية ـ وقائع صادمة تحدث لك» (1986)، وكان مؤلفه ياجيما كنجي استاذاً للاقتصاد في جامعة ايواما غاكوين.
وفي يومنا الحاضر يعد اوتا ريو ـ وهو ماركسي تروتسكي سابق ـ من اكثر دعاة نظرية المؤامرة اليهودية في اليابان. وتقوم جمعية شينريكيو الدينية البوذية بنشر مطبوعات تجذب أعداداً ضخمة من اليابانيين الى نظرية المؤامرة اليهودية على العالم.
اما عن عدد الذين يدينون باليهودية في اليابان فيقدر الآن بنحو الفي شخص. وتقول كتب التاريخ الياباني المدرسية إن اول اتصال مؤكد بين اليابانيين واليهود بدأ في القرن السادس عشر بوصول أعداد من الرحالة والتجار الأوروبيين، وكان بينهم بعض اليهود. الا ان استيطان يهود في بلاد اليابان لم يبدأ الا عام 1853 بوصول القائد البحري الاميركي الكومودور ماثيو بيري الى اليابان بعد صدور ميثاق كاناغاوا الذي انهى سياسة «الباب المغلق» اليابانية.
[[[
وفي اوائل العقد الأول من القرن العشرين حتى عام 1950 تكونت مجموعة من المستوطنين اليهود قوامها عدة مئات قدموا من روسيا ومن الشرق الاوسط (من العراق وسوريا) ومن اوروبا الشرقية. في الوقت نفسه كانت تنمو الجالية اليهودية في طوكيو لتصبح الأكبر في اليابان.
ولعل من اكثر الأمور إثارة للدهشة ان حكومة اليابان إبان فترة التحالف مع ألمانيا النازية قاومت ورفضت بشدة وباستمرار طلبات من الحكومة الألمانية بأن تنتهج سياسات معادية للسامية. وفي نهاية الحرب (العالمية الثانية) انتقل نصف يهود اليابان الى نصف الكرة الغربي (اميركا الشمالية والجنوبية وكندا) وانتقل معظم النصف الآخر الى اسرائيل. وعلى الرغم من تقلص اعداد اليهود في اليابان الا ان نزعة العداء للسامية ونظريات المؤامرة اليهودية للسيطرة على العالم اصبحت اكثر انتشاراً ورواجاً في اليابان.
والآن يسود الاعتقاد على نطاق واسع بأن الصهيونية تشكل «ثقافة تحتية» تأتي الى اليابان في سياق المؤامرات الغربية للسيطرة على اليابان والعالم، وهي مؤامرات يحيكها ويسيطر عليها اليهود، وربما لهذا تنظر غالبية من اليابانيين بعين الريبة الى حقيقة وجود عدد من اليهود بين أفراد القوات الأميركية المرابطة في القواعد الاميركية العديدة في انحاء اليابان، وخاصة في قاعدة اوكيناوا. ويقال بين اليابانيين إن القوات الاميركية المرابطة في اليابان لاتخلو في اي وقت من اعداد من اليهود، الامر الذي لا يأخذه اليابانيون ـ خاصة ذوي النزعة القومية المتشددة ـ بأي درجة من الارتياح.
وليس غريباً ـ في ضوء هذا ـ ان يتشكل في اليابان قبل سنوات قليلة حزب سياسي جديد يقوم بصورة حصرية وبصراحة تامة على افكار العداء للسامية. اسس الحزب عام 2007 ريتشارد كوشيميزو، وأول تعريف به ظهر في الصحافة الاسرائيلية هو انه «من منكري المحرقة» التي وقعت لليهود في ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية. اذ انه يقول إنه لم يُقتل أثناء تلك الحرب اي يهودي، انما مات منهم ستون الفا فقط جراء امراض تنتشر في اوقات الحرب. وأن هتلر تلقى تمويلاً وحماية من اليهود. اطلق على الحزب الجديد اسم حزب الاستقلال، وقد تمكن من الحصول على تصريح رسمي بإلقاء خطاب في حشد عام في مدينة كيوتو في ساحة تابعة لجامعة كيوتو الحكومية.
ويقول مؤسس الحزب كوشيميزو إن هتلر تمكن في نهاية الحرب من الفرار الى الأرجنتين بعد ان رأى ان اهم اهدافه وهو اقامة دولة يهودية قد تحقق، وأنه عاش حتى عام 1980 في حماية الجالية اليهودية هناك. كما يعرب عن إيمانه بأن اليهود كانوا وراء هجمات 11 ايلول /سبتمبر 2001، كما كانوا وراء القنبلة الذرية الأميركية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.
وصرح متحدث باسم السفارة الإسرائيلية في طوكيو بأن الحكومة الاسرائيلية تتناول موضوع هذا الحزب السياسي الجديد «بعناية وبهدوء حتى لا تعطي دعاية وانتشاراً للرجل ووجهات النظر التي يتولاها حزبه». وهو موقف مخالف تماماً لمواقف الحكومة الإسرائيلية ـ وكذلك مواقف المنظمات الموالية لها في الولايات المتحدة وأوروبا ـ التي رأت «ان الحكومة اليابانية (السابقة) غير قادرة على منع كوشيموزو من إلقاء خطابه لاعتبارات تتعلق بحرية الخطابة. ولعلمها بأن مثل هذا المنع يمكن ان تكون له تأثيرات مضادة يمكن ان تسهم في شهرة كوشيموزو».
وتعكس هذه التصريحات الجو العام الذي ساد المنظمات الصهيونية في السنوات الأخيرة بالنسبة لظاهرة العداء للسامية في اليابان ..التي تكسب مزيداً من التأييد مع مرور الوقت.
من هنا يمكننا أن نتساءل: ترى كيف سيكون موقف هذه المنظمات وموقف الحكومة الاسرائيلية إزاء سياسات الحكومة اليابانية الجديدة ـ حكومة الحزب الديموقراطي ـ التي يتوقع ان تكون اكثر انتقاداً لإسرائيل وأقوى تأييداً للفلسطينيين والعرب عامة … أي يُتوقع ان تكون اكثر استقلالاً عن اميركا وعن اسرائيل؟
تكمن مؤشرات الإجابة على هذا السؤال في موجة الانتقادات الاسرائيلية الراهنة ضد سياسات اوباما التي لم ترق بعد الى مستوى تحدي التحدي الإسرائيلي.
إن اموراً كثيرة تتوقف ـ مع ذلك ـ على مدى ذهاب حكومة الحزب الديموقراطي اليابانية باتجاه التحرر من الوصاية الاميركية على السياسة الخارجية، او الالتزام بهذه السياسة بدعوى انها سياسة اوباما الجديدة .. سياسة التغيير، تلك السياسة التي لا يدري احد حتى الآن الى متى ستظل تحمل صفة «التغيير المنتظر».
السفير