صفحات العالمما يحدث في لبنان

مخرج استثنائي لأزمة عادية

خليل احمد خليل
يعيش لبنان في فراغ سياسي بين حكومتين، ناجم عن تبدلات في الديكورات الإقليمية والدولية، وخصوصا عن تقلبات في بورصة الرهانات المحلية. ويخال اللبنانيون أنفسهم في مهب صراعات جديدة على بلدهم، وعلى فلسطين والشرق الأوسط، بعدما أخذت التهديدات الإسرائيلية تتكاثر وتتناثر في غير اتجاه. وقد يُقال: هذا كله قديم مكرور. فلا البرلمان اللبناني المنتخب مختلف نوعيا وبنيويا عن البرلمان السابق الذي أنجب حكومة الدوحة قيصريا، ولا الحكومة العتيدة مرشحة لانطلاقة سياسية راديكالية تخلو من تناقضات وتعارضات الحكومة السنيورية الثلاثينية. فما الجديد إذاً؟ وما الأفق المتاح لكي ينعم اللبنانيون باستقرار سياسي يتعدى الموسم السياحي؟
كالمعتاد جرى تضخيم إعلامي لظاهرة وليد جنبلاط، وسال الكلام على خلط أوراق وتبدل مواقع وموازين قوى، وتأجيل التأليف الحكومي المتعثر أو تعجيل العدوان الاسرائيلي على لبنان، الخ. وما حدث في البوريفاج كان مجرد إعلان لترتيب البيت الحزبي والدرزي معا، وهو حدث مرتقب كان جنبلاط قد بشّر به إبان الانتخابات البرلمانية، وله أفق وحيد هو مصير الزعامة الجنبلاطية. أما الكلام المطوّل على تحولات الأكثرية والأقلية، وعلى تبدل التحالفات السياسية والتفاهمات الإقليمية، فهو توهيم وتضليل إعلامي، لا أكثر ولا أقل.
لماذا؟
لأن لبنان لم يشهد، منذ 2005 حتى الآن، قيام أي جبهة سياسية ذات برنامج إصلاحي وطني محدد ومشترك، حتى يصح الكلام على خلل سياسي ما، ولأن العلاقات العربية، لا سيما السورية ـ السعودية أو المصرية، لم تعرف تحولا تضامنيا في اتجاه مواجهة الحلف الغربي ولا العدو الاسرائيلي سلما أو حربا. وعليه، ما برح لبنان يدور في فلك أزمته العادية، المحلية، التي تبرهن مرة أخرى، على نقص فادح في معنى التمثيل السياسي للشعب اللبناني. بينما يصر العدو الإسرائيلي على انتهاج سياسة الحرب المفتوحة على جواره الفلسطيني واللبناني والسوري… وعلى الثورة الإيرانية. وعندنا أن هذا الاستثناء الاسرائيلي هو الذي يضع لبنان، اليوم وغدا، في إهاب صراعي مديد. وهنا نكتشف مجددا خصوصية الانقسام السياسي اللبناني، الداخلي والعميق، ونفهم ان الأكثرية الشعبية هي في خط المواجهة ضد هذه العدوانية الإسرائيلية السياسية المفتوحة، وأن أقلية سياسية تدعي الحياد ـ ان لم تُظهر انحيازا ـ بين العرب المقاومين وإسرائيل. هنا ندرك مغزى إعادة تأويل جنبلاط للعروبة المقاومة التي شكلت الإرث التاريخي للحزب التقدمي الاشتراكي، ورفضه المغزى الانعزالي لمقولة «لبنان أولا»، مقابل «العروبة أولا»، خصوصا بعدما جرى إنشاء الوحدة الوطنية اللبنانية على مبدأ الهوية العربية للدولة ومواطنيها…
أمام هذه الأزمة العادية يقدّم وليد جنبلاط وحزبه مخرجا استثنائيا، جزئيا وذاتيا، قوامه مصالحة السياسة مع المجتمع، مصالحة الوطنية اللبنانية مع العروبة المقاومة والمنفتحة والمتنورة، وأخيرا، مصالحة الرفاق مع مبادئهم.
لكن ان يؤول المخرج الاستثنائي، بوصفه محركا وهميا لأزمة متخيلة، فهو من فولكلور السياسة المحلية القاصرة عن تحليل البدائل والتحولات الجارية على صعيد المجتمعات والدول المعنية فعلا بالصراع العربي الإسرائيلي، الذي باتت المقاومة من أرفع تجلياته السياسية والميدانية. الواقع ان كتلة تاريخية للممانعة قد نشأت في فلسطين ولبنان، وخاضت حروبا مع العدو الاسرائيلي، وحظيت دوما بدعم ثابت من دمشق وطهران، ومن أغلب الجماهير العربية. هذه العبرة التقطها مؤخرا وليد جنبلاط، وباح بها بصراحة وأعلنها بأسلوبه البرقي الخاص به. كانت بحاجة إلى مقدمات وشروحات، تنطلق من استرجاع تاريخي لفكرة الحزب التقدمي الاشتراكي، المولود سنة 1949، أي بعد عام من نكبة 1948، ردا على ما حدث في فلسطين، وأيضا على ما حدث في لبنان من تقصير سياسي إزاء القضية الفلسطينية، ومن إعدام سياسي لزعيم نهضوي قومي (أنطون سعادة) الذي كان كمال جنبلاط واحدا من الواعين لمغزى محاكمته التي تشبه اغتيالا.
ما المانع في أن يتجلى مجددا على المسرح السياسي اللبناني تمرتب للأحزاب، يمينا، وسطا ويسارا، على إيقاع دولة وطنية مقاومة بجيشها وشعبها معا؟
لا ندعي ان يسارا جديدا سيولد فورا وفجأة، متأثرا بحركة جنبلاط الفوارة والواعدة، إذا تخلصت من شوائب الحسابات القاصرة والضيقة، لكننا نرى طريقا مفتوحا أمام قوى ناضلت، ثم تبعثرت اجتماعيا أو قوميا بين يمين ويسار، لكنها لم تضيّع البوصلة الوطنية للمقاومة. في هذا الطريق المتاح يمكن للحزب التقدمي الاشتراكي أن يخوض غمار النضال الوطني والاجتماعي مع رفاق الأمس واليوم، القوميين والشيوعيين والبعثيين والناصريين والإخوة في حركة أمل وحزب الله، وكل من يرغب في إنتاج مخرج استثنائي لأزمة عادية.
ما نقوله قد يبدو وهما وحلما، وقد يغدو واقعا وعلما. كل شيء يتوقف على مصالحة الرجال مع مبادئهم وأيضا مع بنادقهم. أما الدوران في فراغ السلطة وفي أجواء انقسامها وتقاسمها، بين رئيس حكومة ورئيس جمهورية… وآخرين، فلن يجدي فتيلا. هناك مخرج استثنائي لأزمة الحكم العادية يلوح الآن في أفق لبنان والمنطقة. فهل يتجاسر الرجال على المضي قدما، كالنهر، في طريق إحياء الأرض العربية السياسية اليباب؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى