طالبان الصهيونية
صبحي حديدي
العلاقة بين الحركات الصهيونية والفلسفتَيْن الفاشية والنازية، فضلاً عن التعاون المباشر مع المنظمات والقيادات والأجهزة، تظلّ واحدة من أشدّ حلقات التاريخ الصهيوني إثارة، وأكثرها انطواء علي أسرار كبري، لم يُكشف النقاب إلا عن مقدار قليل منها كما يرجّح المؤرّخون… الإسرائيليون أنفسهم، وليس العرب أو المراجعين أو مناهضي الصهيونية علي اختلاف مشاربهم الفكرية ومناهجهم البحثية (كتاب ليني برينر الصهيونية في عصر الدكتاتورات صار مرجعاً كلاسيكياً في هذا المضمار). وإذْ تحتفل إسرائيل بالذكري الستين لإقامتها علي أرض فلسطين، فإنّ الذكري الـ 110 لأحد كبار الصهاينة الفاشيين تحلّ هذه السنة أيضاً.
أبا أخيمئير (1898 ـ 1962) كان عضواً مؤسساً في الحزب التنقيحي الذي أسّسه زئيف جابوتنسكي سنة 1925، لمراجعة وتنقيح الحركة الصهيونية من أفكار دافيد بن غوريون وحاييم وايزمن حول مفهوم وجغرافية إسرائيل الكبري بصفة خاصة، وأنها يجب أن تضمّ شرق الأردن وبعض البادية الشامية. وكان أخيمئير صقراً متشدداً، قولاً وفعلاً، والأطول لساناً في استمطار اللعنات والشتائم والإتهامات ضد وايزمن و الصهاينة الكاذبين ، من إشتراكيين و إنسانيين و أحباب صهيون ، وضدّ تسعة أعشار المنظمات الصهيونية أياً كانت وظائفها، من الهستدروت وحتي أصغر المنظمات المعنية بمسائل الهجرة وشراء الأراضي وتنظيم الإستيطان. ومنذ أواخر العشرينيات أعلن أخيمئير أنّ المنظمة الصهيونية جثة هامدة ينبغي أن تُدفن سريعاً قبل أن تزكم رائحتها أنوف الصهاينة الأطهار ، أي أعضاء شباب الحركة كما سارت تسميتهم، من أمثال مناحيم بيغين وإسحق شامير، فرسان العمليات الإرهابية القادمة ضدّ الفلسطينيين والبريطانيين علي حدّ سواء، والذين سيصبحون قادة أحزاب إسرائيل ورؤساء حكوماتها في العقود التالية.
كراهية البريطانيين كانت الأقنوم الثاني في أفكار أخيمئير، وقد كادت هذه الكراهية أن تقصيه عن فلسفة الحركة، وعن قائدها جابوتنسكي، الذي تعاطف مع البريطانيين ومارس نشاطاته من لندن. المثير، مع ذلك، أنّ كراهية أخيمئير للبريطانيين لم تمنعه من الإقرار بأنّ فلسطين ملك التاج البريطاني، حتي إشعار آخر. لماذا؟ لأنّ دماء بعض الجنود البريطانيين أريقت في احتلال فلسطين، كما كتب، والمطلوب اليوم إراقة دماء صهيونية كافية لإعلان حقّ صهيون في فلسطين، قبل سحب ملكيتها من بريطانيا، مرّة وإلي الأبد. وفي هذا السياق سخر أخيمئير من أفكار جابوتنسكي حول ضرورة تنظيم حركة جماهيرية، واعتبر أنّ حفنة منتقاة من الأبطال الفائقين (طراز الـ سوبرمان بالمعني النيتشوي الصرف) كفيلة بتحقيق أداء إعجازي يفوق عشرات المرّات ما يمكن أن تنجزه الحشود الغفيرة البلهاء، والقطعان البشرية الهائمة علي وجوهها .
العقيدة الفاشية كانت الأقنوم الثالث في فلسفة أخيمئير، وهذه لم تكن مجرّد نزوع إلي التماهي مع الأفكار العامّة، بل كانت تطابقاً صارخاً مباشراً مع الفاشية الإيطالية، ومع شخصية موسوليني دون سواه. وأخيمئير لم يتردد في عقد الشبه بين جابوتنسكي وموسوليني، بل أطلق علي الأخير لقب دوتشي يهودا والسامرة ، معتبراً أنّ صعود أدولف هتلر يؤدّي خدمة خماسية للحركة الصهيونية: 1) تخليصها من ميوعة الصهاينة الإنسانويين من أمثال آحاد هاعام، ضدّ فكرة الدولة اليهودية في فلسطين؛ 2) البرهنة علي أنّ انتهاك روح الأمّة ، التعبير المفضّل عند الصهاينة المائعين، سوف يطلق أفضل ما فيها، أي أبطالها الأشبه بأنبياء إسرائيل القدماء؛ 3) إثبات إفلاس الذين يفضّلون تحسين أوضاع اليهود في الشتات، بدل نقلهم إلي فلسطين؛ 4) تقديم دليل جديد علي استحالة اندماج اليهود في مجتمعاتهم المضيفة؛ 5) إضعاف الشيوعية السوفييتية، وتطهير ألمانيا، أعظم الأمم في عالم الأغيار حسب أخيمئير، من شبح الشيوعية الذي تنبأ لها به اليهودي العاقّ كارل ماركس .
وفي عام 1928 كانت صحيفة دوار هاعيوم قد نشرت له ذلك النصّ الصريح اللافت وقائع رجل فاشيّ ، الذي أعرب فيه عن إعجابه الشديد بالفلسفة الفاشية الإيطالية، وجاء في واحدة من فقراته هذه العبارة الصارخة: إنني لست ديمقراطياً (…) وشكل الحكم الوحيد الممكن في نظري هو تمكين أقليّة إيجابية من الهيمنة علي أكثرية سلبية ! وفي عام 1933 سوف يضع جابوتنسكي، والتنقيحيين بأسرهم، في حرج أقصي حين أعلن أنّ هتلر زعيم صالح، وأنّ عداءه للماركسية إنما يجلب المياه إلي طواحين المشروع الصهيوني في نهاية المطاف، أو حتي في بدئه!
وفي المئوية الأولي لولادة أخيمئير، وكانت بالطبع تصادف الذكري الخمسين لإقامة دولة إسرائيل، لاح أنّ أبرز أنشطة الإحتفاء به محاضرة أكاديمية ألقاها في القدس المحتلة آخر التحريفيين الأحياء، الأستاذ في جامعة برنستون والأكاديمي مختصّ في تاريخ يهود إسبانيا ومحاكم التفتيش. ولم تكن مصادفة محضة، هذه المرّة، أنّ المحاضر كان يُدعي… بنصهيون نتنياهو، والد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق والزعيم الحالي لحزب الليكود. وأخيراً، لم يكن عشوائياً أن يتصادف الإحتفاء بالذكري الخمسين لإقامة إسرائيل والذكري المئوية لولادة أخيمئير، مع استطلاع للرأي يقول إنّ 46% من الإسرائيليين يؤيدون طرد عرب 1948، الأمر الذي لم يتجاسر أخيمئير علي طرحه، وأحجم عنه جابوتنسكي نفسه!
إنها إسرائيل الطالبان ، هكذا كتب الناشط الأمريكي البارز جستن رايموندو، ليس مصادفة… هنا أيضاً!
القدس العربي
12/05/2008