مساجلة بلا أفق ورصاص طائش
محمد علي فرحات
معظم السياسيين اللبنانيين المرشحين للحوار الوطني، يملك مفهوماً للحوار لا يؤدي الى نتيجة، فهو يقوم على السيطرة وجذب الآخر، كأنهم يضمرون الحرب إذا لم ينجح الحوار. ولا يخطر في بال هؤلاء إمكانية التخلي عن بعض مواقفهم لمصلحة الآخر، أي أن ينتهي الحوار بنوع من التوافق.
يعتبرون الحوار معركة لا مساجلة، ونهاية الحوار عندهم غالب ومغلوب لا نتيجة مستخلصة من مواقف الأطراف، نتيجة هي أكثر صلاحية من أي موقف على حدة.
عالم الاجتماع اللبناني فردريك معتوق أصدر عن دار الحداثة في بيروت كتابه الجديد «مرتكزات السيطرة الغربية – مقاربة سوسيو معرفية». وتناول في كتابه موضوع الحوار أو المساجلة قائلاً:
«يشكّل مفهوم المساجلة (Polemique) أحد أركان التفكير الغربي المعاصر. فهذا المفهوم، كما هي مرسومة أطره في الحضارة الغربية، لا مثيل له في الحضارات الأخرى. لذلك يعجز الجميع عن ترجمته ترجمة تعكس المعنى الحقيقي الذي يقوم عليه.
يشتق مصطلح بوليميك، في الفرنسية كما في الانكليزية من Polemos التي تعني، باللغة الإغريقية، الحرب. وفي جميع اللغات الأوروبية أعطي لكلمة Polemique معنى المخاض السياسي العنيف حول شؤون ترتدي الطابع العام. أما في ترجمة هذا المصطلح الى لغات العالم الأخرى فلا تأخذ المرادفات بعين الاعتبار سوى طابع المشاحنات أو المشاجرات السياسية بين أفرقاء يحملون آراء مختلفة.
والواقع أن المخاض السياسي المقصود في اللغات الأوروبية يعني قبل كل شيء انفتاحاً ذهنياً كبيراً على رأي الخصم، على رغم مقارعته العنيفة لدى الاصطدام العلني والعام به. فلا تعني بالتالي البوليميك الشجار والخصام، بل الجدل الخلاق والبنّاء الذي يصبو مَن يدخل في مساره الى نتيجة مختلفة جدلياً عن تلك التي انطلق منها وينتمي اليها حالياً.
هذا الاستعداد الذهني للانفتاح على الآخر ملازم للبوليميك الذي يصبح لذلك أكثر من مجرد صراع بين متخاصمين سياسيين آنيين، حيث انه يذهب أبعد من المصلحة الذاتية الصرف (بانتمائه الى الشأن العام) وأبعد من المقارعة السياسية الدائرية التي لا استعداد عندها للخروج من دائرة رأيها المركون داخل عصبية لا تتزحزح ولا (ولن) تغادر مواقعها الأصلية (الأصيلة).
لذلك أيضاً، في نهاية الجدل البوليميكي هناك بطبيعة الحال منتصر، لكن المنتصر عليهم لا يشعرون بأنهم مهزومون، بمعنى أن الانتصار البوليميكي يُدخل من انتصر عليهم في معادلة جديدة مفتوحة قد تؤدي، بعد فترة من الزمن، الى عودة المنتصر عليه الى سدة الانتصار.
فالمنتصِر والمنتصَر عليه يدخلان، في البوليميك، ضمن دينامية توحّدهما استراتيجياً وتجعل نشاطهما السياسي متكاملاً وحاضناً لنهر واحد، مثل ضفتي النهر.
من هنا لا غُلب في البوليميك بالمعنى الذي نجده عند ابن خلدون. حيث ان الانتصار لا يؤدي الى القضاء على فكرة السلطة عند الخصم بالقضاء عليه وعليها معاً، بل ان الانتصار يؤدي الى فتح معادلة سياسية جديدة يُتاح فيها للمنتصَر عليه إعداد عودته الى السلطة بالأساليب الديموقراطية. فعندما ينتصر حزب العمال في بريطانيا على حزب المحافظين أو العكس، يلجأ الطرف الظافر في الانتخابات الى اعتماد شيء من برنامج خصمه وتضمينه في بيانه الوزاري للعمل، هو، على تحقيقه.
أما في معظم التجارب الثقافية الأخرى فإن الخصام السياسي يؤدي الى الحرب بالمعنى المادي للكلمة، لا بالمعنى المجازي. فيقضي أحد الأطراف على الآخر قضاء نهائياً، وإن استطاع يمحوه من الوجود.
لذلك يغدو مفهوم البوليميك مفهوماً مجرداً للحرب وبديلاً لها في آن. إذ ان طابعه الفوّار يسمح بتخطي التناقض المطلق بطرحه للتوليف كأفق للجدل. فيصبح إذ ذاك الصراع خلافاً لا اختلافاً، وينبع المشروع البديل على الدوام من أنقاض المشروع السابق ليمهّد ضمناً، ومن دون اعتراض جوهري منه، لمجيء مشروع لاحق.
من أين أتت هذه الميزة في الرؤية السياسية في الغرب؟
أتت بكل بساطة من أن المجتمعات الغربية وضعت تباعاً، بعد خروجها من زمن القرون الوسطى، مواثيق سياسية مدنية للتفكير والعمل السياسي. بحيث أن لا سياسة خارج إرادة المجتمع. فالسياسي اجتماعي في الصميم، لا فوق المجتمع. من هنا اتسامه بالطابع الحواري في عمق أعماقه وانفتاحه الدائم على البدائل، نظراً لنسبية الحياة الاجتماعية التي باتت المجتمعات الغربية مقولبة ذهنياً عليها منذ أكثر من خمسة قرون.
فالبوليميك، في المستوى الفكري، يلعب لدى الغربيين الدور الذي تلعبه البرلمانات على المستوى التشريعي والدستوري، حيث لا مجال، في دنيا البوليميك لقصور للمنتصر مع سجون للمهزومين، يُلزمون فيها بارتداء أقنعة حديدية أو يُصفّون».
الحياة – 10/05/08