نحو شرعية الفرد لا شرعية الهوية … ونحو ثقافة نقدية لا قومية
ياسين الحاج صالح
تهيمن في الثقافة العربية مقاربتان متعارضتان للعلاقات العربية الغربية. مقاربة حضارية ترى أن الغرب متحضر ومتقدم والعرب متأخرون، وأن أول ما يتعين عليهم القيام به هو الاجتهاد الثقافي والسياسي والاقتصادي لردم الهوة الحضارية، الأمر الذي يقتضي تحييد عوامل الصراع أو تبريدها. المقاربة الثانية، بالعكس، صراعية، ترى أن الغرب معتدٍ ومسيطر، وأن تقدم العرب مرهون بمواجهة ناجحة للعدوانية الغربية، ما يدفع إلى الوراء إشكالية التقدم والتخلف أو النهوض الحضاري.
وينحاز القوميون عموماً إلى المقاربة الثانية، فيما يميل الليبراليون إلى الأولى. وكانت ميزة الماركسية الشيوعية في وقت سابق أنها اقترحت مفهوما للتقدم يوحد بين المقاربتين ويحلهما معاً. فقد جعلت من مواجهة الامبريالية كمرحلة عليا من الرأسمالية وكتوسع استعماري تقدماً تاريخياً وأخلاقياً في آن معاً، أي المزيد من الحضارة ومن العدالة. والى حين من الدهر كان بدا أن الاتحاد السوفياتي يوفر التجربة الحاسمة التي تصادق على وحدة التقدم كمقاومة للسيطرة والاستغلال والتقدم كحضارة اشتراكية مغايرة، وهو وحدة مؤسسة على وحدة الامبريالية كاستعمار وكرأسمالية (كما قد تتلاشى المسألة الحضارية تماماً، كما في المماهاة التي كان قررها المرحوم مهدي عامل بين النضال الوطني والنضال الطبقي، أو في كتابه «أزمة الحضارة أم أزمة البرجوازية العربية؟»).
غير أن تفكك الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وتكشف التشوه العميق للنموذج التنموي الخاص به، والتخلف المتعدد الجوانب لبناه الإنتاجية والعلمية، والامتيازات غير العقلانية للنومنكلاتورا الحاكمة مقابل حرمان واسع النطاق للجمهور العام، يضاف إلى مصادرة الحريات المدنية والسياسية.. كل ذلك أفقد المهتمين العرب حلاً ممكناً. فلم يعد في وسعنا اليوم أن نقول بعد عبد الله العروي إن ميزة الماركسية أنها تتيح لنا نقد الغرب من دون الارتهان للماضي، ونقد ماضينا دون الوقوع في التبعية للغرب.
فعلى رغم أن تفكير العروي التاريخاني كان أقرب إلى ماركسية ماركس، إلا أن الماركسية الشيوعية في مطالع سبعينات القرن الماضي، وقت ألف المفكر والمؤرخ المغربي كتابه «أزمة المثقفين العرب»، هي التي تؤسس لموضوعته.
في المقابل، يبدو اليوم أن المركب الشيوعي، «الماركسية اللينينية»، ينفك إلى ماركسية، تتماهى مع غرب الأنوار والليبرالية، وتتآلف مع الرأسمالية والاستعمار؛ وإلى شيوعية أو لينينية، تعي ذاتها بلغة «مناهضة الامبريالية».
والشيوعيون العرب اليوم هم استمرار لواحد من الاتجاهين اللذين يبدو التركيب بينهما متعذراً. واللافت أن التنويعة الثانية، اللينينية، هي التي ترفع راية الشيوعية وليس الأولى، الماركسية. ولذلك صلة في ما نرجح بملاءمة الطابع الأبوي للشيوعية السوفياتية (صراع، معاداة الأجنبي، نزعة قومية، تعبئة..) لاستعداداتنا الثقافية وللطور التاريخي الذي نحن فيه اليوم (الطور القومي) أكثر من الماركسية التي احتفظت بعناصر نقدية وعقلانية وليبرالية قوية.
ومن موقعنا اليوم لا نرى أن التركيب ممكن أصلاً. ينبغي أن نكون متقدمين سلفا كي نستطيع الجمع بين مزيد من التقدم ومقاومة السيطرة الغربية. لكن لو كنا متقدمين لما طرحت المشكلة، وربما لتشكل موقفنا من السيطرة تلك على نحو مختلف. التركيب اللفظي ممكن طبعاً وسهل، لكن أصح أن نسميه توفيقية، وهذه لا تكف عن التفكك أمام الصعوبات الواقعية.
وتجربتنا التاريخية خلال أكثر من ستين عاماً تظهر أن التصارع مع الغرب اقترن بضعف التقدم الحضاري، إن لم يكن بالنكوص عن قليل قد يكون تحقق أحياناً على مستوى الثقافة.
ماذا عن الخيار المعاكس؟ منح الأولوية للمجهود التحضري، ولو أدى إلى تحييد الصراع أو تجميده؟ لا نرى بديلاً عن ذلك. فمن جهة، الصـــراع مـــع الغـــرب وهو في أوج قوته يعني أننا نلعب لعبته، أي ننافسه في مجال تفوقه ونستدرج أنفسنا إلى الخسارة. وهذا غير عقلاني.
ومن جهة أخرى، لم تدر المقاربة الصراعية ثماراً، على مستوى أهدافها الذاتية، وليس فقط على مستوى الترقي الحضاري. ومن جهة أخيرة، نرجح أن من شأن أي تقدم حضاري يتحقق لنا أن يؤهلنا بصورة أفضل لإدارة العلاقة الصراعية مع الغرب.
لكن من يملك القرار الشرعي في التحول نحو المقاربة الحضارية؟ لا يبدو أن أحداً في مجتمعاتنا مهيأ لذلك. بل يبدو متعذراً أن تتوحد مجتمعاتنا حول قرار كهذا فيما لو بادرت إليه السلطات. وليس ثمة ما يشير إلى أن جنوح مصر للسلم مع إسرائيل وانحياز حكوماتها طوال جيل كامل إلى الغرب وطليعته الأميركية جعلها في وضع أفضل للتقدم الحضاري. لكن ليس أكيدا أصلاً أنه صدر عن مقاربة حضارية متسقة. على أن نخب السلطة المصرية ذاتها تتبنى المقاربة الصراعية على المستويين الثقافي والإعلامي، ما يتيح للنظام أن يضعف خصومه السياسيين، لكن باللعب على ملعبهم.
ودلالة ذلك أن المقاربة الصراعية هي التي تدر الشرعية، وليس نقيضتها. وقد تتمثل المشكلة، تالياً، في البنى الثقافية والدينية التي تسند المقاربة الصراعية، والتي يؤثر مثقفون، وليس الحكام فقط، بذل الولاء لها كي يفوزوا بالشرعية.توفر هذه البنى ذاكرة وتمثلات ونظرة إلى العالم أكثر ملاءمة للتصور الصراعي منها للتصور الحضاري (ولعل هذا من خصائص الطور القومي). وهي تقترن بالهوية والوطنية وميراث الآباء، إلى حد أن نقدها وتحديها يُخْرِج من الشرعية وقد يبدو فعل خيانة.
لكن في المقابل لا يبدو أن تغذية الامثتالية الثقافية تحل أية مشكلة. إنها تنشر مناخاً ذهنياً ونفسياً خانقاً، وتسوغ سياسات أبوية واستبدادية في الداخل، وتغذي مواقف انعزالية عن العالم.
لذلك لا نرى بديلاً من استئناف الجهود الفكرية والثقافية لنقد وإعادة تشكيل ثقافتنا باتجاه أكثر نقدية وليبرالية، وأقل أبوية وقومية. أي التحول إلى شرعية جديدة، شرعية الأبناء في مواجهة شرعية الآباء، وشرعية الفرد وحقوقه ضد شرعية الهوية و «الأمة»، وشرعية المواطن مقابل شرعية «الوطن». وبقدر ما نتقدم في هذا الاتجاه فيبدو الغرب والموقف من الغرب شيئاً ثانوياً. وسوف نكون على الأرجح في وضع أنسب لمواجهة السيطرة الغربية أو مفاوضتها.
في ما وراء الموقف من الغرب، المسألة، إذن، تتعلق ببنيتنا الثقافية وبالصراع بين شرعيتين داخلها. ولا ريب أن تفوق الشرعية الصراعية، أي القومية، يستفيد إلى حد كبير من التوتر المستمر في العلاقات العربية – الغربية، لكن كذلك من واقع أن الشرعية هذه أنسب لهيمنة بطريركية، تفرض مفهوماً معيناً للوطنية على مجتمعاتها. ومن البين على سبيل المثال أن الشرعية الأبوية احتلت مواقع جديدة في السنوات الأخيرة التالية لاحتلال العراق، فيما تراجعت الشرعية البنوية والنقدية، وبدا أن القومي والإسلامي والشيوعي ينتعشون على حساب الديموقراطي والليبرالي. واضح أيضاً أن المستفيد الأول من ذلك هو النظم الاستبدادية الحاكمة، والإيديولوجيون السائرون في ركابها. ولا نرى أن الطور القومي الجديد سيكون أكثر نجاحاً من سابقه. بل لعله هو ذاته من أعراض الخروج المتعثر من تنظيمات القومية وحساسياتها بعد أن أخفقت في حل أي من المشكلات التي تصدت لها. وهو ما سيعني ترحيل هذه المشكلات إلى طور جديد، لتعالج بوسائل تصورية وسياسية جديدة.
خاص – صفحات سورية –