«حنظلة» والقدس: حين يكون الصراع محمّلاً بالرموز
وحيد عبد المجيد
لا يستطيع «حنظلة» الذهاب إلى القدس في عام الاحتفال بها عاصمة للثقافة العربية، والذي يصادف ذكرى «ميلاده» الأربعين. وهو نفسه العام الذي يشهد أضخم عمل على ارض المدينة المقدسة لإخراجها عملياً من دائرة التفاوض وتكريس سيطرة إسرائيل عليها.
وإذا كان بنيامين نتانياهو يناور في تعاطيه مع الجهود السلمية الأميركية الراهنة، فلا مجال لمناورة عندما يتعلق الأمر بالقدس. وليس واضحاً، بعد، ما إذا كان الرئيس باراك أوباما وفريقه يدركان أنه لا جدوى من أي تسوية لا تشمل المدينة المقدسة. فعلى أرضها، وحول أسوار بلدتها القديمة، تكمن روح الصراع الذي لا تقل أهمية الرموز فيه عن الحقائق إن لم تزد.
ولذلك يقف «حنظلة» برمزيته ذات الدلالة العميقة، في ذكرى مرور 40 عاماً على «ميلاده»، متأملاً حال القدس التي تحوي أهم الرموز الدينية – التاريخية – الحضارية في صراع محمَّل بمواريث على نحو يجعل حله مستحيلاً بمنأى عنها.
المصادفة وحدها هي التي ربطت بين عام القدس كعاصمة للثقافة العربية وذكرى مرور 40 عاماً على إبداع الفنان الفلسطيني ناجي العلي شخصية الطفل الكاريكاتوري حنظلة ذي الشعر الأشعث والملابس الرثة والمحمل برمزية عميقة الأغوار أتاحت لهذه الشخصية حضوراً مستمراً في المشهد الثقافي العربي على رغم مرور أكثر من عقدين على اغتيال مبدعها. وبغض النظر عن ملابسات ذلك الاغتيال، يبقى «حنظلة» الذي لا يموت رمزاً لقضية باتت مهددة بأن تتلاشى.
وها هو المجتمع الدولي الذي يتغنى بالتنوع الثقافي يقف متفرجاً إزاء قيام سلطة الاحتلال الإسرائيلي بمنع أي نشاطات للاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية، في الوقت الذي تتسارع إجراءاتها الهادفة إلى إكمال تهويد المدينة بكل ما تنطوي عليه من انتهاكات قانونية وسياسية وثقافية ودينية.
وليست جديدة هذه الإجراءات، التي بدأت فور احتلال القدس الشرقية خلال حرب 1967 عبر مصادرة أراض وإقامة مستوطنات عليها أو اعتبارها «أراض دولة» أو حظر البناء عليها لأسباب أمنية. ولكن سياسة التهويد، التي توسعت بشكل تدريجي حتى أوائل تسعينات القرن الماضي، شهدت تحولاً نوعياً منذ منتصف ذلك العقد بهدف الانتهاء من عملية التهويد قبل الوصول إلى أي حل سلمي لقضية فلسطين.
فما إن تم توقيع إعلان المبادئ الذي نتج عن مفاوضات أوسلو في 1993، وبدء المفاوضات لتنفيذه، حتى وضعت بلدية القدس التي تمثل سلطة الاحتلال مشروع «القدس 2020» بهدف إكمال عملية التهويد خلال فترة أقصاها ربع قرن. وتبنى المشروع هذا الهدف بوضوح تام وبلا أدنى مراعاة للمسؤولية الملقاة على أية سلطة احتلال في القانون الدولي عموماً واتفاقيات جنيف بصفة خاصة. وتضمن مشروع «القدس 2020» الخطط اللازمة لتغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي للمدينة وضم الكتل الاستيطانية المقامة على مشارفها إليها. وأدى ذلك إلى تسريع وتائر عملية تهويد القدس بمعدلات أعلى مما كانت عليه في الفترة 1967-1994. وساهمت الإجراءات التي اتخذت خلال تلك المرحلة الثانية في تهيئة الأوضاع لما يمكن اعتباره مرحلة ثالثة اقترنت ببناء جدار الفصل الذي أتاح وسيلة جديدة لتجريد عرب القدس من أراضيهم. فقد أدى هذا الجدار إلى مصادرة نحو أربعين ألف دونم وهدم عشرات المباني والمنشآت.
وإذ بات واضحاً أن الحكومة الإسرائيلية جادة تماماً في إكمال تهويد القدس، تبدو مسؤولية العرب دولاً ومجتمعات أكبر من الاحتفال بهذه المدينة المقدسة عاصمة للثقافة العربية.
ومع ذلك، يمكن أن تكون هذه المناسبة نفسها فرصة لعمل عربي جاد، بدوره، على الأرض وليس فقط لكلام جميل من النوع الذي اقتصرت عليه المشاركة العربية فيها حتى الآن. فما أشد حاجة المدينة إلى مشروعات ثقافية يمكن الشروع في الإعداد لها خلال ما بقي في العام الجاري، باعتبارها نشاطات لإحياء المناسبة مع السعي إلى تعبئة المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل بعدم إعاقتها. تستطيع كل دولة عربية، أو أكبر عدد ممكن من هذه الدول، أن تتبنى مشروعاً ثقافياً معيناً وتموله وتعهد إلى شركة أو أكثر بتنفيذه. ويمكن أن يكون هذا المشروع مسرحاً كبيراً أو مكتبة عامة أو دار سينما أو متحفاً أو مركزاً ثقافياً.
كما قد يكون المشروع ترميماً لمساجد وكنائس ومعالم أساسية، بل حتى لبيوت تهدمت واجهاتها وأكل الصدأ أبوابها وشبابيكها بسبب قلة العناية بها. فالمقدسيون الذين يهدد الاحتلال وجود بيوتهم يصعب أن يلتفتوا إلى ترميم هذه البيوت، وهم يواجهون خطر الاقتلاع من جذورهم.
وكم من شارع قديم في القدس العريقة يحتاج إلى مشروع للترميم والتجميل. فمن شارع صلاح الدين إلى شارع السلطان سليمان إلى شارع الزهراء إلى شارع ابن خلدون إلى شارع علي بن أبي طالب، إلى ساحات المسجد الأقصى، تكثر المعالم التي تنادي كل من يستطيع المساهمة عبر مشاريع ترميم يعتبرها العالم ومنظمة «اليونسكو» الدولية عملاً ثقافياً لا يجوز منعه لأسباب سياسية ولا تستطيع إسرائيل بالتالي إعاقته إذا اقترن بتعبئة دولية واسعة لمساندته.
وهذا النوع من المشاريع الثقافية ليس مجرد «رفع للعتب» يلجأ إليه العرب من باب أنه أقصى ما يمكنهم السعي إليه، لأنها تمثل رداً على عملية تزوير ثقافي – حضاري كبرى ترمي إلى تغيير الوجه التاريخي والقومي والديني الإسلامي – المسيحي للقدس. وقد نبهت «مؤسسة الأقصى للوقف والتراث» أخيراً إلى الأخطار الهائلة المتضمنة في مشروعات للترميم تقوم بها «سلطة تطوير القدس» و «سلطة الآثار الإسرائيلية» بتمويل يتجاوز مائة وخمسين مليون دولار لإجراء تهويد شامل في عدد من معالم القدس الأساسية وأسوارها وأبوابها ودكاكينها القديمة.
والحق أن ما يهدد القدس صار أكثر من واضح على نحو لا يترك حاجة إلى نداءات لإنقاذها من النوع الذي يتواتر هذه الأيام. فكل شبر في المدينة المقدسة ينادي دولنا وشعوبنا العربية ليكون احتفالها بالقدس عاصمة لثقافتها عبر مشاريع ثقافية على الأرض وليس فقط من خلال فعاليات للاستهلاك المحلي في هذا البلد أو ذاك.
ويستطيع كل منا أن يشعر بحرارة النداء القادم من أرض القدس ومساجدها وكنائسها وشوارعها وحاراتها وآثارها ومنازلها. فإذا لم نستطع الاستجابة له ونحن نحتفل بالقدس هذا العام، سيبقى «حنظلة» يدير ظهره لنا بقدميه الحافيتين وملابسه الرثة، حزيناً متألماً لا تعوضه إطلالته اللافتة في فعاليات ثقافية عربية عدة بمناسبة «عامه الأربعين» عن عجزه عن الذهاب إلى المدينة المقدسة.
الحياة