الأزمة العراقية السورية… دلالات وتداعيات
باتريك سيل
الأزمة التي تفجرت بين بغداد ودمشق مؤخراً ليست سوى آخر تجليات الشك المتبادل والعميق الذي يفرق القادة العرب، ويعوق أي محاولة للعمل العربي المشترك على الساحة الدولية، ويثبت بجلاء أن “الحرب الباردة العربية” لا تزال تدور بلا هوادة.
في نفس الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الأميركي أوباما إيجاد حل للصراع العربي -الإسرائيلي، والذي ارتهن المنطقة لعقود، واستنزف الطاقات العربية… نجد القادة العرب غير قادرين على التوحد والعمل من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة. ليس هذا فحسب، بل نجد أن الفلسطينيين، ورغم أنهم أصحاب المصلحة الأكبر في جهود أوباما، إلا أنهم -كبقية العرب- يقدمون أكثر مشاهد الفرقة، والاقتتال الداخلي، مدعاة للأسف.
والشيء اللافت للنظر أن تركيا، وليس أي دولة عربية أخرى، هي التي سعت إلى التوسط بين العراق وسوريا، حيث اتصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بكل من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، والرئيس السوري حافظ الأسد كي يحثهما على التوصل لتسوية، في نفس الوقت الذي زار فيه وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو عاصمتي البلدين.
والعلاقات بين المالكي والأسد وصلت اليوم إلى أدنى مستوياتها بعد أن تغير المناخ الذي كان قائماً بين البلدين إلى درجة خطيرة.
والدافع المباشر لانهيار العلاقات بين البلدين بهذه الدرجة، هو تلك الهجمات الانتحارية المدمرة التي وقعت في بغداد يوم 19 أغسطس الماضي، والتي أسفرت عن مصرع 100 شخص تقريبا، وركز القائمون بها لأول مرة منذ عدة سنوات، على المباني العامة بشكل رئيسي وعلى وجه الخصوص وزارة الخارجية ووزارة المالية.
ورغم أن تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، وهو تنظيم سني سلفي صغير وغامض وغير معروف حجم قوته على وجه دقيق، قد أعلن مسؤوليته عن تنفيذ تلك العملية، إلا أن المالكي اتهم سوريا بإيواء مرتكبي الحادث، الذين وصفهم بأنهم أعضاء سابقون في حزب “البعث” الحاكم سابقاً، وأنهم يعملون بالتواطؤ مع الاستخبارات السورية، وطالب سوريا بترحيل المشتبه بهم من أراضيها، وتسليمهم إلى العراق في نفس الوقت الذي استدعى فيه سفيره من دمشق للتشاور، وهو إجراء ردت عليه سوريا بالمثل. كما أرسل المالكي تعزيزات من قوات الشرطة إلى مناطق الحدود العراقية -السورية.
رد الرئيس السوري بشار الأسد بحدة على اتهامات المالكي، ووصفها بأنها “غير مسؤولة، ومدمرة للعلاقات العراقية -السورية”. وقال أيضاً: إن أقل ما يمكن أن يقال عن تلك الاتهامات هو أنها لا أخلاقية، لأنها تتهم سوريا بقتل العراقيين في الوقت الذي تأوي فيه قرابة 1.2 مليون عراقي. وبذلك يشير الأسد إلى العراقيين الذين وفرت لهم سوريا ملاذاً من العنف الذي أطلقه الغزو الأميركي.
في السنوات الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق -أي في عام 2003 وما بعده- كان لسوريا مصلحة واضحة في دعم التمرد العراقي، وكان من الطبيعي بناءً على ذلك أن تسمح بعبور المجاهدين للحدود إلى داخل العراق، لأنها كانت تعرف أن الولايات المتحدة إذا ما نجحت في تحقيق أهدافها من ذلك الغزو فإنها ستكون الهدف التالي، خصوصا وأن “المحافظين الجدد” الموالين لإسرائيل، والذين كانوا يتبؤون مرتبة عالية في إدارة بوش لم يخفوا بعد أن نجحوا في دفع بوش للإطاحة بصدام حسين، وهو ما أدى إلى تحسين وضع إسرائيل الاستراتيجي بالتالي، حقيقة تلهفهم على الإطاحة بالنظام السوري بدوره.
أما في الوقت الراهن، وبعد أن بدأت إدارة أوباما في فك ارتباطها بالعراق، فإن مصلحة سوريا تكمن في تأسيس تجارة مزدهرة وروابط طاقة مع عراق مستقر ومزدهر، وهو ما يعني بالتالي أن اتهام سوريا بأنها تقف خلف التفجيرات الأخيرة في بغداد هو اتهام تعوزه المصداقية.
والتفجيرات الدامية التي وقعت في العراق 19 سبتمبر تظهر الهشاشة الكبيرة للمنظومة السياسية في العراق، كما تظهر كذلك أن هذا البلد لا يزال فريسة لشياطين الطائفية والحرب العشائرية. وتلك التفجيرات، شأنها في ذلك شأن أي عمل أرهابي آخر من تلك الأعمال التي وقعت منذ انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية الرئيسية في شهر يونيو الماضي، تؤشر على الإرث المخيف للغزو الأميركي، ومن أبرز تجلياته تدمير الجيش العراقي وحزب “البعث”، وهما المؤسستان اللتان حافظتا لعدة عقود على تماسك الدولة.
ومن الواضح أن رئيس الوزراء المالكي يواجه صعوبة بالغة في السيطرة على الوضع الأمني المتدهور، وبعض المراقبين يعتقدون أن اتهاماته الموجهة لسوريا ليست في جوهرها سوى محاولة لصرف الأنظار عن ضعفه السياسي الذي فاقمت منه العمليات الإرهابية الأخيرة.
علاوة على ذلك، يواجه المالكي متاعب جمة من شركائه في الائتلاف الحاكم، الذين وضعوه في منصبه كرئيس وزراء في مارس 2006. فمن المعروف أن الائتلاف الذي كسب الانتخابات التي مهدت لتنصيب المالكي، كان يتكون من حزب “الدعوة”، وهو حزب المالكي نفسه، و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، بالإضافة إلى تجمعين صغيرين هما: الصدريون وحزب “الفضيلة”.
وفي الوقت الراهن يواجه المالكي استحقاقاً مقلقاً، وهو الانتخابات الجديدة التي ستعقد في يناير المقبل. وتحسباً لتلك الانتخابات، طلب المالكي ضماناً من الأحزاب الأخرى المشاركة في ائتلافه، وهو الاحتفاظ بمنصبه كرئيس للوزراء، وهو ما رفضته تلك الأحزاب، التي قامت بدلا من ذلك بتأسيس ائتلافها الشيعي الخاص بعد استبعاد “الدعوة”.
وقد رد المالكي على تلك الخطوة بأن قدم نفسه، في إطار محاولته نزع الصفة الطائفية عن صورته، كوطني عراقي مصمم على حماية بلاده ضد كل من يحاول إيقاع الأذى بها، وكوّن ائتلافه “غير الطائفي” الذي يضم الشيعة، والسنة، والأكراد، والمسيحيين، كما نجح في نسبة الفضل لنفسه باعتباره الرجل الذي أفلح في توقيع اتفاقية لإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق.
مع ذلك، يبدو المالكي، في نظر معظم المراقبين، رجلا يسعى بتصميم إلى تعزيز سلطته الشخصية. ومن الواضح أن ذلك السعي قد أقلق طهران، الأكثر قرباً من الائتلاف الشيعي الجديد منها إلى المالكي ذاته، دون أن ينجح في إقناع السعودية ومصر بأنه رجل يضع المصالح العربية في موضع القلب، في حين أدى صدامه الأخير مع سوريا إلى زيادة عزلته.
ونقطة الضعف القاتلة في المالكي هي أنه -رغم تقديم نفسه كوطني عراقي- إلا أنه لا يزال يتصرف كرجل كطائفي، حيث أخفق -كما هو واضح- في تحقيق الوفاق مع الطائفة السنية، كما لا يزال يعتبر أن الموالين لصدام حسين هم أعداؤه اللدودون.
وكل ما تقدم أعلاه، يشير إلى أن طريق العراق نحو الاستقرار والرفاهية، سوف يكون -على الأرجح- طويلا وشاقاً في آن معاً.
الاتحاد