برهان غليونصفحات العالم

المفاوضات المباشرة… لماذا الرفض العربي؟

null
د. برهان غليون
على مشروع استئناف مفاوضات التسوية السياسية الذي تسعى إدارة أوباما لإعادة إحيائه، جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي فريداً من نوعه، حتى لو لم يكن خارجاً عن التقاليد الإسرائيلية. فقد قبل علنا أو على مستوى الخطاب والتصريح بمبدأ تجميد الاستيطان، لكنه لم يتوقف على المستوى العملي عن فعل كل ما هو مخالف لذلك. فقبل أن يبدأ ميتشيل جولته نشرت الصحافة خبر توقيع وزير الدفاع الإسرائيلي على مشروع بناء 2500 مستعمرة جديدة، ولم تلبث الحكومة الإسرائيلية أن أعلنت أن الاستيطان في القدس لا يخضع للتجميد، كما لا يخضع له بناء المباني العامة. وأخيراً أعلن في الرابع من الشهر الجاري، مستبقا عودة ميتشيل في جولته الثانية، التحضير للتجميد من خلال إعطاء زخم أقوى للاستيطان، معززاً موقفه بموقف مجلس ممثلي المستوطنين (يشا) الذي يصر على أن التجميد لا يشمل مشاريع البناء الخاص، أي التي يقوم بها الأفراد بمحض إرادتهم. باختصار قال نتانياهو نعم للتجميد (شرط استئناف مفاوضات السلام) واستمر في مصادرة الأراضي الفلسطينية والدفع بعجلة بناء المستوطنات أسرع من أي وقت سابق.
على هذه المواقف والأعمال الإسرائيلية الاستفزازية، رد الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ببيان عبر فيه عن أسف واشنطن. وقال إن الاستمرار في بناء المستوطنات لا يتطابق مع التزامات إسرائيل. وأن الولايات المتحدة لن تعترف بشرعية التوسع الاستيطاني المستمر، بل تطلب بإيقافه. فمن المؤكد، كما قال البيت الأبيض، أن “مثل هذه الأعمال لا تخلق جواً مناسباً لإطلاق المفاوضات”. ولم يتردد الرئيس الفرنسي سركوزي في إدانة موقف نتانياهو من تسريع عملية بناء المستوطنات، ووصفها الناطق الرسمي باسم الخارجية الفرنسية بأنها “مناقضة لديناميكية عملية السلام”. أما جافيير سولانا، ممثل الاتحاد الأوروبي ومسؤول السياسة الخارجية للاتحاد، فأكد أن الاتحاد “يدعو إلى توقف جميع أعمال الاستيطان”. وباستثناء رئيس السلطة الفلسطينية الذي وصف تصريحات نتانياهو الاستيطانية بأنها غير مقبولة، لم تصدر عن الحكومات العربية أي مواقف علنية.
لم يكن بإمكان واشنطن ولا العواصم الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها باريس التي تبنت مشروع إعادة إطلاق مفاوضات التسوية، أن تلتزم الصمت من دون التعرض لخسائر كبيرة في هيبتها وصدقيتها السياسية والأخلاقية. لكن السؤال: ما هدف نتانياهو من تأكيده العلني نيته في دعم الاستيطان وتسريع وتيرته قبل المفاوضات، بينما لا تزال واشنطن والسلطة الفلسطينية تربطان الدخول فيها بتجميد الاستيطان؟ وما الذي يسمح لنتانياهو بأن يتعامل بهذه الطريقة المهينة مع حلفائه الطبيعيين، وهم دول كبرى؟
أغلب المحللين يرون أن الدافع هو حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على تماسك التآلف الذي تستند إليه حكومته ومنعه من الانهيار. فالجناح اليميني من حزب “ليكود” يهدد، مع الأحزاب الأخرى اليمينية المشاركة في الحكومة، بالخروج منها إذا قبل نتانياهو بالتجميد الكامل للاستيطان. والواقع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي لا يقل تطرفاً عن حلفائه في الحكومة الصهيونية، يستخدم هذا التشدد لفرض شروطه المسبقة على الأميركيين وسطاء عملية السلام. فالمفاوضات بدأت في الواقع منذ أن أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة نيتها العودة إلى مفاوضات سلام الشرق الأوسط وعينت لها ميتشيل مبعوثاً خاصاً. ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا يفعل أكثر مما فعله أسلافه حكام إسرائيل من تحويل مشروع المفاوضات السلمية إلى وسيلة للحصول على مزيد من المكاسب، المالية والاقتصادية والسياسية، لكن أيضا الترابية المجسدة في إكراه الأميركيين على القبول بالأمر الواقع، أي بالاستيطان والاحتلال. وهو ما حصل حتى الآن.
لكن ما الذي يدعو الأميركيين، وهم القوة العظمى، ومعهم الأوروبيون، إلى طأطأة الرأس والتسليم لابتزاز الحكومات الإسرائيلية والقبول بشروطها؟
يقول بعض المحللين السياسيين إن واشنطن والعواصم الأوروبية الحليفة لا خيار لها، فإما أن تقبل بالشروط التي يفرضها المفاوض الإسرائيلي حتى تنطلق المفاوضات، وتؤكد للعرب والرأي العام نجاحها في إطلاق مبادرة السلام التي وعدت بها، أو ترفض الابتزاز الإسرائيلي وتقبل بالتحدي الذي يمكن أن ينجم عنه انهيار الحكومة الإسرائيلية ودخول إسرائيل في أزمة سياسية طويلة تغلق من جديد أي أمل في التوصل إلى سلام.
نتانياهو يدرك أنه ليس لدى واشنطن ولا حلفائها الغربيين خيار آخر سوى التسوية مع إسرائيل. فالضغوط لا تجدي، لأن إسرائيل تملك مفاتيح بدء المفاوضات أو تعطيلها. وواشنطن وحلفاؤها في حاجة اليوم، لتعاون تل أبيب من أجل استعادة صدقيتهم السياسية، وكسب بعض ثقة الشعوب العربية، وضمان الأمر الواقع الإقليمي، بما في ذلك استقرار الدول الحليفة في المنطقة. وتعرف إسرائيل أنها تستطيع أن تتقاضى منافع كبيرة لقاء هذا التعاون.
أين تكمن المشكلة إذن؟
اعتدنا نحن على القول إن اللوبي الإسرائيلي هو الذي يتحكم بواشنطن والعواصم الأخرى. لذلك لن تستطيع هذه الأخيرة أن تضغط على تل أبيب مهما تغيرت الإدارات وشخوص الرؤساء.
إذا كان هذا هو الواقع بالفعل، فما الداعي للحديث عن مفاوضات سياسية؟ ولماذا الدخول فيها؟ وعلى ماذا نراهن نحن العرب في هذا القبول؟
الحقيقة أن الحديث عن سيطرة اللوبي الإسرائيلي على واشنطن والتقليل من هامش المناورة أمام أوباما تجاه هذا اللوبي، وتبسيط صورة عملية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، لا يهدف إلا إلى التغطية على الفراغ السياسي والدبلوماسي الذي يعيشه الوضع العربي. ولو تأملنا ما يحصل لاكتشفنا أن أصل المشكلة هو انسحابنا العملي، الاستراتيجي والسياسي بل والدبلوماسي، من المواجهة، وتسليمنا الأمر للولايات المتحدة التي يتفاوض مبعوثها، ميتشيل، مع إسرائيل بالنيابة عنا. وكأي وسيط أو نائب، يسعى ميتشيل لتحصيل ما يمكن تحصيله لنا. وهذا هو دور الوسيط والعامل بالوكالة. ولا علاقة لبؤس العوائد بشخصية ميتشيل ولا بحسن نواياه، وإنما هي النتيجة الحتمية لميزان القوى القائم الذي قبلنا بتكريسه ولم نعمل شيئاً لتعديله منذ عقود: إسرائيل تفعل على الأرض، ونحن نطالب بالتدخل الغربي لاسترجاع حقوق عربية. في مثل هذه الشروط لن يستطيع أوباما، مهما بذل من جهد، ولا أي مبعوث له، أن يحقق للعرب ما رفضوا أو يرفضون هم أنفسهم تحقيقه بالأصالة.
لماذا لا يدخل العرب في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ويدافعون عن حقوقهم بأيديهم؟ ببساطة لأن مباشرة المفاوضات بالأصالة تقتضي أن يكون وراء المفاوض قوة كافية لردع الخصم عن التمادي في مطالبه أو تعنته، وإلا عرض نفسه للاستهزاء والسخرية والإهانة. وهذا بالضبط ما نخاف منه. فلم تكن المفاوضات في أي يوم بديلا عن وجود القوة أو ممكنة من دونها. أليس إدراكنا لاختلال توازن القوة هو الذي دفعنا نحن العرب إلى إيكال مهمة التفاوض مع إسرائيل إلى الأميركيين والغربيين عموماً؟ لكن هيهات أن يحقق الإنسان بقوة غيره ما يعجز عن تحقيقه بقوته الذاتية. ومهما تشدد الأميركيون في موقفهم وضغوطهم، تعرف إسرائيل يقيناً أنها في مواجهة أصدقاء وحلفاء حقيقيين.
سبب واحد يمكن أن يبرر رفضنا للمفاوضات المباشرة وقبولنا بالاتكاء على المجموعة الدولية، هو كسب الوقت لتعديل ميزان القوى الاستراتيجية بما يتيح لنا خوض مفاوضات جدية. ما عدا ذلك نصبح كالنعامة التي تخفي وجهها في الرمل. وهل حصدنا من وراء المفاوضات التي نخوضها منذ عقود سوى المزيد من الخسائر والتنازلات المجانية والإهانات؟
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى