جغرافيا بديلة لإيمان مرسال
صدرت للشاعرة المصرية ايمان مرسال مجموعة جديدة بعنوان “جغرافيا بديلة” (عن دار الشروق في القاهرة)، وهي استمرار لتجربتها الحية، وللغتها المتقشفة، القريبة، اليومية، لكن الموحية، والمظللة، وكأن ايمان مرسال (التي زارت بيوروت أخيراً لأول مرة وسحرت بها وودت لو تقيم فيها، وربما ستقيم. تكتب بتلك الشفافية العارية, مشهديات بديكورات متفرقة وربما مهملة، ولقطات لامعة، وبجمل هي الى استدراجاتها، تجافي الأفقية من حيث العلاقات المتواشجة، او من حيث (البنية ـ الزمن ـ الايقاع). تقترب منك بحميمية لكن احيانا هنا حيادية، وآخرى موصولة من دون ان ننسى سخريتها المتوارية خلف اقنعة لغة تبدو بلا اقنعة، او بأقنعة من هواء أو من ماء.. اي من دون تجميل أو عمليات.
تجميل او بودرة تبرج
هنا مختارات منها:
[ أصابع سوداء
_1_
ان تتزوجي عازف بيانو
سيظل مختلفاً عن زواجك بحاراً
جميعهم يعرفون ذلك
حيث لن يروك مرة أخرى في ميناء
والصورة الأخيرة التي ستظهرين عليها
ستكون لكائن مشنوق نسى اصابعه فوق عينيه
بينما قدماه الشاحبتان على مسافة أميال
من السلم الموسيقي
_2_
قالت الجدة” الفرخ الحائر للحدأة
قال الأب: لا تكلمي الغرباء
قال الأستاذ: الشرق شرق والغرب غرب
قال صديق المقهى: الهجرة خطأ لا يصححه الا الاستمرار فيه
قال الطبيب: انت حامل
يقول الطبيب أنت “حامل”
تقولين لا أنا حُبلى
ليس لأن الصفة تنقصها “تاء التأنيث”
ليس لأن اللغة العربية غير عادلة
لكن لأن “حُبلى” هي الكلمة التي تجعلك ممتلئة بنفسك
أنتِ حُبلى اذن.
[ الغرام
_1_
بعد سنوات تأمله من الشُباك
ووضعه أحياناً مع الحبوب المهدئة في حقيبة الظهر
فجأة ينفجر الغرام من حيث لا تتوقع
الأمر لا يخلو من نوايا أدبية
مثل كشط الصدأ عن كلمة “غرام” نفسها
وغسل كلمات مثل “هجْر”، “وصال”، “ضنا”
من اللعاب الذي بللها اثناء الغناء.
_2_
اذا كنت شاعراً عربياً فلا بد انك كتبت عنه من قبل
ذلك أنك لا بد تهت في صحراء الهواى سنوات
تبحث عن الحيوان الخرافي الذي يحتل عين الماء الوحيدة فتقتله
ثم تبكي جريمتك الحتمية من أجل شربة ماء
وحتى بعد دخولك الى أمان العائلة
تظل شاعراً
الغرامُ سيءُ السمعة
الغرامُ أسوأ موضوع للكتابة ولا شك.
_2_
أبحث عن ملهمة في كل قصيدة اقرؤها
يعلق الشاعر ملهمته على الحائط ويثبت أطرافها بالمسامير
الصورة موضوع الاستيهام، تبدأ من عيني الضحية وتنتهي حسب
درجة القرب من الحداثة ـ بين فخذيها ـ
أو على أحسن تقدير بالوعي بأنها ضحية.
لعبت هذا الدور في أوقات الفراغ
ولحسن الحظ لم أقابل شاعراً عظيماً قط
وخرجت من التجارب بكراهية الملهمات.
_4_
جسر من الشيفون
وعليك ان تعبر فوقه الى الشاطئ الآخر
بالطبع ليس ذلك بر الأمان،
أنت لن تصل الى هناك كما أنت
لأنك للتو ستسقط في الماء الآسن
أكثر من يدٍ ستمتد لانتشالك؛ لأصدقاء يظنون انهم مجربون
وشعراء مهمتهم تأمل السقوط وطبيب نفسي يسلّي أرقهُ
وليس من بينها يدُ الله فلا تحزن
ستخرج فجأة اصابع من اعلانات التجميل
لتمنحك جلداً مصقولاً
وبعدها لن تخشى السقوط ثانية.
_5_
ينجح الغرام في جعلنا أصلاء وانانيين،
أنانيين بأصالة واصلاء في أنانيتنا.. الخ
ولا شيء يكفي
حتى ليبدو ذلك الذي قال ان القناعة كنز لا يفنى
وكأنه ثبت الحواس في درجة الصفر
ماشياً صوب الصحراء
وهو يصفر بلحن يشبه: “أنا أنت وأنت أنا”
[ دكان خرائط
_1_
بامكانك تخيله عائداً من الحرب
تلك الحروب التي تنمو في مكان آخر
ليعود بعض افرادها بذكريات قد تبدو كافية
لصناعة فيلم شبه واقعي
المهم، انه عاد من صحراء في شمال افريقيا،
وبخبرة في العطش افتتح دكاناً لبيع العصائر
كان يضع الثلج فوق المشروبات الصحية التي اصبحت في أواخر
الأربعينيات امارة على اميركا في عهدها الجديد العادل
حين اكتشف مياها تنز من الصناديق
فتهيأ له بحر، يابسة، ثم جزيرة
من هنا تولدت لديه فكرة مشوشة عن الجغرافيا
ثم جاء حفيده الذي لم يذهب ابداً الى الحرب
فحول الدكان الى مكان لبيع الخرائط
_2_
لو مررت من هنا يوماً
في هذا الشارع الذي يشبه شرياناً مسدوداً في قلب مانهاتن
سترى أناسا ليسوا من هنا
يدخلون ويخرجون ونادراً ما يشترون شيئاً
انا مرة رأيت امرأة تمسح التراب عن جبل
وبنتا ترسل خصلة من شعرها في بحيرة
وسمعت آخر يحاول ان يصف لآخر معه
موقع بيته البعيد في قريته البعيدة بالقرب من مدينة بعيدة
تظهر مثل نقطة في خريطة بلده البعيد.
_3_
أنا أمر من هنا
لا لأشارك هؤلاء الغرباء حسرتهم
ولا لأضع الماء في النيل الذي يبدو مثل ثعبانٍ نائمٍ
في الرسم المعلق في مواجهة الباب
ولا حتى لأتأمل ذلك البهاء الذي لا بد كان هناك
في أعلى الركبة اليمنى لصاحب الدكان الأصلي
الذي أرى الآن صورته في زي الجندي ونيشانه
دون اي ذكرٍ لرجله الخشبية
او للماءِ الذي نزَّ من الصناديق.
_4_
أنا لا أعرف لماذا أمرُّ من هنا حقيقة
لكني الآن أشهد بعيني
بائع الخرائط
مرعوباً ربما للمرة الأولى
في حربٍ لم يجد وقتا ليذهب اليها
الحرب، هذه المرة، جاءت اليه.