صفحات ثقافية

هــل هــي عمليــات تجميــل أم أنــها أزمــة هويّــات؟

null
رفيف رضا صيداوي
لا شكّ في أن القيم الجمالية ليست هي وحدها التي تتغيّر، بل إن القوام يتغيّر أيضاً، بمقدار ما تتطوّر أشكاله أو معالمه عبر الزمن. لذا قال الباحث جورج فيغاريللو خلال بحثه في تاريخ الجمال إن التاريخ ينحفر في الأجساد. الفرنسي إدغار ديغا (1834 ـ 1917).
لكن ما هو بارز في زمننا الحالي، هو ذاك النمط أو النموذج من الجمال الذكري أو الأنثوي الذي بات كأنه معولَم. ومن عناصر هذا النموذج لدى الرجال، قوام ممشوق، وملامح جمال أنثوية، لكن مع عضلات مفتولة؛ فثمة تحوّل أنثوي للمجتمع ركّز إيريك زيمور في كتابه «الجنس الأول» على إثبات ملامحه، وهو الجمال الأندروجيني الذي راح يطغي في مجتمعه الفرنسي، والذي واكبه انخراط متزايد للرجال في حقل التجميل والجمال الذي كان مقتصراً في السابق على النساء بشكل أساسي. إذ إن عدداً كبيراً من الدراسات والأبحاث والكتب، ومن أحدثها كتاب بول أكيرمان «الذكورة المتميّزة: تحقيق حول الهوية الجديدة للرجال»، اتّجه إلى تأكيد تغيّر أحوال النساء أو الرجال، وبروز ميل أكبر إلى التلاعب الحرّ لصفات «الذكورة» و»الأنوثة» في كلّ فرد بغض النظر عن جنسه.
أما النموذج الجمالي المعولم لدى النساء، فيتجلّى بصدر ناهض ودائري، وبشفتين وحاجبين مرسومين رسماً، بالإضافة إلى بطن ممسوح، وسيقان طويلة ونحيلة، وخصر رفيع وسوى ذلك من ملامح ومظاهر جماليّة معولمة.
إنه نمط جمال واحد أوحد، يتماهى به عدد كبير من النساء والرجال من مختلف الأعمار، ويسعون إلى التزوّد بسماته بحماسة تجعلهم قلقين، وغير راضين، وأحياناً محبطين.
وبالتالي، فإن الإقبال على عمليات التجميل، وإن كان أكبر حجماً لدى النساء منه لدى الرجال، يعود على المستوى الظاهري إلى محاولات الاقتراب قدر الإمكان من النموذج الجمالي السائد، خصوصاً حين لا يكون هذا الإقبال لإزالة عاهة ما أو لتحسين جزء أو عضو من الأعضاء بسبب الإجماع العام على نفوره. من ذلك على سبيل المثال، الإقبال على تجميل الأنف أو الذقن أو الأذنين، أو غير ذلك من العمليات التي تخصّ الجسد، لا سيما إذا ترتّبت عن ذلك إفادة صحيّة إلى جانب الإفادة الجماليّة. فتصغير صدر امرأة منفر بضخامته، قد يغدو مطلباً طبّياً لما قد ينتج عن ضخامة الثديين من أضرار صحّية على القلب، أو على العمود الفقري، خصوصاً إذا كانت تمتلكه امرأة قصيرة القامة… وذلك مع ضرورة الإشارة إلى القفزة النوعيّة التي حققتها الجراحة العامة خلال العقدين الأخيرين.
تفسير الظاهرة
إلا أن الإقبال على عمليات التجميل من دون أن تكون هناك حاجة فعليّة إلى ذلك، خصوصاً لدى الفتيات والنساء، وشعور الكثيرات منهنّ بالإهانة أو بعدم الثقة بالنفس، لا بدّ من أن يكون مرتبطاً بجذور نفسية عائدة للطفولة أو للتاريخ الشخصي، إلا أن تفسير الظاهرة لا يتوقف عند هذا الحدّ، لأنه مرتبط حتماً بالإطار الاجتماعي وبأسبابه الموضوعية القائمة في التاريخ الحديث. فيلاحظ آلن إهرنبرغ في كتابه « تعب أن يكون المرء ذاته» (بحسب ما ورد في كتاب كلود دوبار «أزمة الهويات») إلى أي مدى يشكّل الاكتئاب تظاهرات يتزايد تواترها وتسويقها إعلامياً ومناقشتها بين الخبراء، وتعاش عبر آلام نوعيّة يولّدها الوجود المعاصر. ويستند دوبار إلى كلام إهرنبرغ ليؤكد كم أصبح الاكتئاب أكثر الأمثلة شيوعاً على أزمات الهوية الشخصية، خصوصاً أن إهرنبرغ ربط هذه التظاهرات المؤلمة بتغيّر النموذج الثقافي الذي يواجهه رجال اليوم ونساؤه. فإلحاح أن يكون المرء ذاته، أو أن يتحقق ويبني هويته الشخصية ويتجاوز نفسه باتت من الأمور التي تولّد المرض «الهوياتي المزمن أحياناً». إذ حلّ الفرد الساعي لاكتساب هويته الشخصية محل الفرد المتكيّف الذي يطبق معايير وسطه وثقافته وطبقته الاجتماعية مثل الآخرين. فالمشكلة تكمن إذاً، في «التألم من الذات» بسبب ضعف الأنا، وبسبب تناقص تقدير الذات أو انهياره في عينيّ المرء نفسه. ويعلّق دوبار قائلاً إن النماذج الجديدة المفروضة على الناس باتت بالغة الصعوية، وبأن هذا الأمر وإن كان ليس بجديد، إلا أن كل شيء بات يدعو للاعتقاد بأن الحركات القسرية تزايدت تزايداً واضحاً في السنوات الثلاثين الماضية. أزمة الهوية، سواء أكانت أزمة الفرد أم الدول أم الشعوب، أم أزمة الجماعات المختلفة، من أوسعها كالجماعات العرقية، إلى أصغرها كجماعات الأحياء، وما يتخلّلهما من جماعات مهنية على سبيل المثال، باتت أزمات عصر ما بعد الحداثة، حيث المعرفة بحسب جانى ـ فرنسوا ليوتار «تُنتج وسوف تُنتج كي تُباع، وتُستهلك وسوف تُستهلك كي يجري تقييمها في إنتاج جديد: وفي كلتا الحالتين، فإن الهدف هو التبادل. تكفّ المعرفة عن أن تكون غاية في حدّ ذاتها، إنها تفقد قيمتها الاستعماليّة»؛ إنها أزمات عصر ما بعد الحداثة، حيث الثقافة «المجرّدة من العمق»، وتحديداً ثقافة المجتمع الاستهلاكي التي تكتسب، بحسب رأي جيمسون وبودريلار الوارد في كتاب مايك فيذرستون «الثقافة الاستهلاكيّة والاتجاهات الحديثة»، «أهميّة ومغزى جديدين من خلال تشبّع الإشارات والرسائل إلى الحدّ الذي يمكن أن يقال فيه عن كل شيء في الحياة الاجتماعيّة إنه ثقافي، الأمر الذي يؤدّي، بسبب هذا التسييل للإشارات والصور، إلى محو الفوارق بين الثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيريّة وطمسها». في حين يغدو التلفزيون بحسب بودريلار هو العالم، ويغدو المشاهد النمطي بحسب منظري ما بعد التحديث، ذلك الذي تتتابع المشاهد سريعاً أمامه من دون أن يتمكّن من أن يجعل منها شيئاً له معنى، بل يكتفي بالاستمتاع فقط بالإشارة السطحية للصور؛ إنها أزمات زمن ما بعد الحداثة الذي يجري التركيز فيه على «التأثيرات الفوريّة، والشدّة وزيادة الجرعة الحسّية، وذوبان العلاقات والصور، واختلاط الرموز، وكلها دلائل على افتقار الثقافة الاستهلاكيّة للعمق، حيث يتبادل الفنّ والواقع موقعيهما في ما يمكن أن يُسمّى بالهلوسة الجماليّة للواقع» ( فيذرستون، مايك).
وفي ظلّ إسهام الإعلام الفضائي في العالم العربي في تكريس تلك الملامح الشكليّة النمطيّة لكلّ من الرجل والمرأة، وفي موازاة التوصيف الذي تقدّمت به مدرسة فرانكفورت للإنسان المعاصر، كإنسان ذي بعد واحد، فاقد الهوية، صاحب نزعة استهلاكية، قليل الحساسية تجاه الغير، يعاني عزلة وضياعاً، أسير المرحلة الراهنة والأمر الواقع والتوقيت المخيف والسرعة الفائقة، والوقائع السريعة الكفيلة بأن تنسيه ما قبلها وتتركه يتحفّز لما بعدها، أي تتركه يعيش في دوامة من النسيان والانبهار بالآنية… في ظلّ كلّ هذه التغييرات الاجتماعيّة والثقافيّة إذاً، يمضي النمط المعولم من الجمال، وخصوصاً لدى النساء والفتيات لأسباب لا مجال للغوص فيها في هذا المقال، في تهميش كلّ الأجساد النسائيّة غير المتطابقة مع معاييره القاسية. وهذا ما يدفع حتّى بالفتيات الصغيرات، ممّن لا تتجاوز أعمارهنّ سنّ التاسعة، إلى اتباع حمّية غذائيّة. بحيث وُصفت هذه الفئة من الفتيات في الغرب بـ «ضحايا الغذاء» (Food Victimes) في مجتمع بات مهووساً بالنحافة. وقد أشارت مراجع أجنبيّة إلى أن الوزن المثالي لامرأة يبلغ طولها 1.68 م، وبحسب مؤشرات مجلات الجمال، تراجع من 60 كلغ عام 1933 إلى 48 كلغ عام 2001! وما يصحّ على الغرب يصحّ أيضاً على الشرق العربي الذي انخرط في زمن ما بعد الحداثة حتى ولو أن مستوى تطور بنياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة لا يتجانس بنيوياً مع هذا الزمن. إذ باتت مجتمعاتنا العربيّة أكثر خضوعاً ككلّ المجتمعات الراهنة لمعايير الثقافة الاستهلاكية العالمية المروّجة للمتعة أو الإمتاع أو لثقافة المتعة واللّذة بوصفها من أبرز القيم التي تضفي مسحة جماليّة على الحياة اليوميّة. فيتمّ التركيز على جسد المرأة الجميلة إلى حدّ إشباع الفضاء العام والخطابات بهذا الجسد الأنثوي، ويتمّ تحويل هذا الجسد إلى رمز تجاري أساسي تجري الاستفادة منه عن طريق استغلاله، إلى أقصى الحدود، كمادة للثقافة الاستهلاكية المباشرة، ولإثارة الغرائز الجنسيّة، وللترويج لأنواع معيّنة من السلع الاستهلاكيّة وغيرها، وذلك من دون أن ننسى الدور الكبير الذي تلعبه مصانع الجمال ووسائل الإعلام في هذا السياق، خصوصاً مع عجز معظم الفضائيات العربية عن وضع تصوّر لإنتاج ثقافة عربية متنوّعة ومتجدّدة، بحسب استنتاجات الباحثة نهوند القادري في كتابها «قراءة في ثقافة الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك»، واقتصار هذه الفضائيات على إعادة إنتاج التشرذم الثقافي، فضلاً عن ضعف المقدرة لدى غالبية الفضائيات على الخروج من هذه الجوقة العربية المقلّدة والمحاكية والمكرّرة بعضها البعض، وعدم تمكّنها من توفير الشروط الملائمة لاتّخاذ المبادرة، والعمل على إنتاج ثقافي محلي يُعبّر عن المواطنين بمختلف توجهاتهم، ويحرص على التنوّع والتعدّد داخل هذه الثقافة، من دون التفريط بوحدة المجموعة. ففي كتابه «دراسات سوسيو إعلامية»، توقف محمد علي البدوي عند «صورة المرأة في الإعلام العربي»، ولاحظ الصورة المشوّهة للمرأة العربية خلال مسيرة الإعلام في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى بداية القرن الحادي والعشرين، لأنها في الإعلام إما تقليدية تابعة للرجل وعاجزة عن اتّخاذ قرار، أو امرأة عصرية طلّقت المعايير والقيم الأخلاقيّة، أو امرأة أنثى لا همّ لها سوى الاهتمام بمظهرها الخارجي وأناقتها وجمالها. كما صنّف نماذج المرأة في الإعلانات إلى أربعة نماذج هي: المرأة التقليدية، المرأة الجسد، المرأة الشيء، المرأة السطحية، وهي كلها نماذج تعمل حسب البدوي على تشويه صورة المرأة وتنتقص من قيمتها كإنسان فاعل له دور في الحياة الاجتماعية غير الدور الترويجي للسلع المختلفة، فضلاً عن إسهام هذه الصورة في تعزيز النزعة الاستهلاكية لديها على حساب النزعة الإنتاجية التي يجب أن تحكم عقل المرأة والرجل وسلوكهما في آن واحد.
زوال الحدود
أما زوال الحدود بين المنتَج وبين المستهلكين كظاهرة مرافقة للعولمة، فقد أسهم بدوره في تكريس نمط الجمال المعولَم. بحيث صرنا نشهد منذ بضعة عقود دعوة، لا تزال تتوسّع، إلى المستهلكين للاستجابة للمنتَج أو للمعروض، بل أحياناً دعوة للمشاركة في تطويره، فيما كثر الكلام على الاستراتيجيات التجارية المُستلهَمة من المستهلِك… وهي جميعها مظاهر تشير إلى زوال الحدود بين المنتَج والمستلهلك، وذلك في موازاة تقلّص المسافة بين نجوم الفنّ عموماً، كالممثلين والممثلات، وعارضي وعارضات الأزياء، والمغنّين والمغنّيات من جهة، وبين الجمهور من جهة ثانية، في زمن تتسارع فيه الأحداث بوتيرة أسرع من الأزمنة السابقة. وبدا كأن هؤلاء النجوم أصبحوا بمتناول يد الناس العاديّين الذين أصبحوا بدورهم قادرين على الغرق في تفاصيل حيواتهم اليوميّة وعلى محاكاتهم والاقتداء بهم وبالمعيار الجمالي المعولَم المتجــسّد بجانب منه من خلالهم.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى