من وحي الإفلاس الأخير: الثورة، السلطة والمال
د.اياد زيعور
في فيلم «فيفا زاباتا» (1952)الذي يروي بيوغرافيا الثائر المكسيكي الشهير إميليانو زاباتا، يبدأ الفيلم بمجموعة من الفلاحين الفقراء، بينهم زاباتا، تزور الحاكم لتطالبه بتحسين أوضاعها، فيرفض الحاكم التجاوب بازدراء. وحده زاباتا يحاول أن يناقش، مما يغضب الحاكم فيسأله عن اسمه بعصبية ليسجله على ورقة. لكن زاباتا لا يعطي الحاكم فرصة لمعاقبته بل يخرج سريعا ليؤسس لثورة الفلاحين التي تنجح وتعيده الى القصر نفسه حاكما.
وفي منتصف الفيلم، نرى تكراراً للمقدمة لكن باختلاف الأدوار: زاباتا هو الحاكم يستقبل وفدا من الفلاحين بينهم فتى يجرؤ أن يناقشه، فيغضب زاباتا ويمسك الورقة ليسجل اسم الفتى، وحينها يدرك ما يجري بالضبط: لقد نجح الثائر عسكريا، لكن طبقة السلطة والمال روّضَته ليصبح نسخة عن الحاكم الذي ثار ضده…
يناقش هذا الفيلم أزمة الثورات منذ الأزل: ماذا يحصل بعدما يصل الثائر الى السلطة؟ لماذا يسقط معظم الثوار؟ علما بأن مخرج الفيلم نفسه، إيليا كازان، اتهم بخيانة رفاقه بعد الحملة المكارثية على الشيوعيين في خمسينيات الولايات المتحدة.
بين السلطة والمال عـلاقة غرام… فهما ينجذبان بعضهما الى بعض كقطبي المغناطيس، ونتيجة زواجهما وليدٌ سفاح اسمه طبقة الفساد.
إنها نتيجة تبعث على الإحباط الشديد والأسى، لا سيما عند الذين راهنوا وضحوا مع الثوار، وأملوا أن تغييرا حقيقيا سيحدث، فقط ليروا ثنائية المال والسلطة تمتص رموزهم. يأخذ هذا الأسى الطابع الشخصي أحيانا، حيث الإحساس بخيبة الأمل والخيانة، ثم يتحول الى حالة من العبثية والإيمان باستحالة التغيير، وقد تؤدي في البعض الى تبني كل ما هو نقيض للثورة.
وحتى لا نظلم هؤلاء الثوار السابقين، لا بد من الاعتراف بالتأثير الهائل للبيــئة على الفرد. ففي تجربة زيمباردو Zimbardo الشــهيرة التي جرت في السبعينيات في جـامعة ستانفورد الاميركية، تم انتقاء مجموعة من الطلاب الأصحاء نفسيا ليلعبوا دور السجانين والمساجين. سريعا اندمج الطلاب في أدوارهم: الذين يلعبون دور السجانين بدأوا يظهرون درجة عالية من العدائية، التســلط والسادية لم تكن موجـودة في شخصياتهــم من قبل. بينما أصيب الذين يلعبون دور المساجين بحالة من الخنوع غير المبرر أمام إساءات السجانين ومن ثم تحولوا الى التمرد. حتى زيمباردو نفسه، المشرف على التجربة، تورط خلال التجربة في أمور غير أخلاقية منبعثة من إحساسه الوهمي بالسلطة التي أعطته إياها التجربة.
هذه النــتائج المخــيفة تعنــي شيــئا واحدا: لا ضمانة لأي فرد في أن تكفي أخلاقياته أو مبادئه لحفظه من الفـساد في بيئة كل شيء فيها يدفع في ذلك الاتجاه. ليــس الحل في الرهان على الأشخاص، بل في إعادة هندسة البيئة المنتجة للفساد. هكذا هندسة تحتاج أمرا واحدا: نظام صلب وفاعل للثواب والعقاب مبني على الشفافية التي تكشف الأوساخ ولا تغطيها.
التجـربة الغــربية في هذا المجال قد تــكون الأنجح، النظام لا الفرد هو الذي يعتمد عليه. فبدل الاتكال على إنسانية الفرد، هناك نظام الضـرائب الذي يقــبض على أنفاس الأغنياء ليحـقق نوعا من العدالة الاجتماعية.
وبدل الاتكال على أخلاقيات الســياسيين، هناك قوانين وقــواعد صــارمة تدفع وزيرا لأن يستقيل لشرائه مجلة من مال الدولة، وتجبر الرئيس الأميركي على رد هــدية عبارة عن علبة سيجار. ولا يعــني نــظام الــعقاب الفاعل أن الفساد سيختفي، لأنه ليس دوره إصلاح البشر، بل إن دوره هــو في إرسال رسالة الى المجتمع بأن الفساد ليس أمرا مربحا دائما. وإذا لم يطبق النظام فإن رسالته لن تصل.
بعد الإفلاس الأخــير، ظهر بــقوة حــديث عن الأمــوال الضـائعة، وعــن نوعية الأشخاص الذين يمـلكون هذه الأمــوال والـذين يفترض أن يكونوا من الكـادحين. أصــيب الكثير من الكـادحين الحقيقيين الذين ظنوا أن الذين يمثلونهم بالسلــطة هم شركاؤهم بالكدح، بإحباط شديد. ربما تــكون أموال هــؤلاء شرعية من الناحية القــانونيــة لكنــها بالتأكيد ليست كذلك من ناحـية شــرعية مبادئ البيئة التي أوصلتهم الى مواقعهم.
لا شك بأن إخراج الأمر الى القـضاء اللبناني هو نقطة الضوء الوحيدة التي يمـكن أن تشير إلى أن تجربة الثورة هذه مختلفـة عن سابقاتها. لأنه على عكس الطبـقات الفاسدة التي يحمي بعضها بعضا، واذا اضطرت لأن تضحي فهي تضـحي بالجزء الأضعف منها، فإن تسليم الأمر الى القضاء يعني أن كل المتضررين، النافذ والمستضعف، سيتساوون بالجرجرة أمام قصر العدل. عدم حماية الحزبيين النافذين، مع أنه يبدو أنه كان هناك فرصة لترتيب أوضاعهم وتـرك الفــتات للعامة، يرسل رسالة قوية: من يلعب لعبة المال يجب أن يتحمل نتائجها وحده، يربح وحده ويخسر وحده، وليست وظيفة الحركات الثورية حماية طبقتها المخملية الناشئة.
الإحباط والأسى اللذان أصابا الكثيرين من الذين آمنوا بفرادة هذه التجربة الثورية له ما يبرره بعد ما عانوه من التجارب السابقة. فما قد حدث ليس بهيّن، خصوصا عند جماعة تحمل مناقبية لاهوتية مثالية، نعثر عليها عند صاحب نهج البلاغة الذي أسس لأرقى نظام أخلاقي في العلاقة بين السلطة والمال، حيث يقـول في رسالة الى عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي الى وليمة الأغـنياء: «أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتـية أهـل البـصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت اليها تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليــك الجــفان (الإناء)، وما ظنــنت أنك تجـيب الى طــعام قــومٍ عـائِلُهم (فقيرهم) مَجفُو وغَنيُّهم مدعُو. فانظر الى ما تقضَمُهُ من هذا المُقــضَم، فما اشتــبه عليك عِلمُه فالفِظه، وما أيقنت بطيــبِ وجهه فنل منه. ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمَامَكم قد اكتفى من دنياه بِطِمرَيه (الثوب) ، ومن طُعمِهِ بِقُرصيه…».
ليست الأزمة في أن يفــسد أفراد من الثورة، بل الأزمة هي عندما تحمــيهم الثــورة، حتـى اذا قوي عودهم، تســلطوا علــيها. هنــاك رهان كــبير بين من يــقول إن التــاريخ سيعيد نـفسه ومن يقول إن هناك عصراً جديداً، فــأي رهان سيربح؟
[ أستاذ جامعي
السفير