صفحات ثقافية

سيمون دو بوفوار راوية الحي اللاتيني

null
سناء الخوري
عن تلك السنوات الذهبيّة في سان جيرمان دي بري
من خلال رواية «المثقفون» التي دخلت أخيراً المكتبة العربية، نتعرّف إلى أم النسويّة عاشقةً، وشاهدة على حقبة خصبة بالمخاضات الفكريّة والإبداعيّة التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين. أيام كان المستقبل يُصنع بين المقاهي والمنازل والمسارح على يد أنتلجنسيا ما بعد الحرب في باريس

فناجين قهوة وجرائد طازجة، رسائل عشق وبيانات سياسيّة، مخطوطات لكلامٍ كبير في الفكر وإلى جانبها، على الأرجح، أفكارٌ للعدد القادم من مجلّة «الأزمنة الحديثة»، ومسودةٌ لرواية ما. أمّا هم، فجالسون هناك حول طاولات مقهى Les Deux Magots أو منافسه Café de Flore في سان جيرمان دي بري، قلب العاصمة الفرنسيّة الطالعة من الحرب. في تلك البقعة الباريسيّة، التقى المثقفون، فأضحت، منذ عام 1945 وطوال عقد من الزمن، محوراً مطلقاً للحياة الأدبيّة والفنيّة العالميّة. السرُّ كلّه في روّاد المكان: سيمون دو بوفوار يرافقها جان بول سارتر، ومعهما ألبير كامو، موريس مرلو ــ بونتي، بيكاسو، وهمنغواي ومن لفَّ لفّهم من أهل الفكر والأدب.
هناك، شهدت الفلسفة الوجوديّة على طريقة سارتر أوج مجدها، وواصل شعراء السريالية الحفر عكس التاريخ. بوفوار الحاضرة دوماً، كانت تشارك، تفكّر، تشهد تفاصيل هذا الجوّ عن قرب، تعيشه. لو قدّر لنا أن نستعير لحظةً عينيها الخضراوين كأنّهما الوقت، ماذا كنّا سنرى؟ جزءٌ من الإجابة نجده في رواية «المثقفون» (1954، Les Mandarins)، التي باتت أخيراً في متناول القارئ العربي، بفضل الجهد الحثيث الذي بذلته ماري طوق (جزءان عن «دار الآداب»). هنا تحكي بوفوار على لسان بطلتها المحللة النفسيّة آن دوبروي، سيرة مثقفين يساريين خارجين من رحم المقاومة الفرنسيّة في الحرب العالميّة الثانية، إلى عالم من الأسئلة الكبيرة والانقسامات الملحّة بين معسكرين، شرقي وغربي، على أبواب الحرب الباردة. نتعرّف هنا على أم النسويّة، كشاهدة، تنقل «لون الوجود» في سنوات شهدت مخاض الأفكار والنظريات والإبداعات التي صنعت عصرنا الحالي. تضعنا آن/ سيمون منذ الصفحات الأولى، وسط حلقة ضيّقة من المثقفين، يحتفلون بعيد الميلاد الأول بعد التحرير. تحدثنا، عن روبير دوبروي، المفكر الملتزم حتى العظم، الناشط في الأدب والصحافة، ومؤسس منظمة يساريّة غير شيوعيّة (SRL). تحدثنا بإعجاب عن أثره المعنوي الكبير على محيطه ورفاقه. في الشخصيّة المكتوبة الكثير من سارتر. تحدثنا الكاتبة/ المحللة أيضاً، عن هنري بيرون، وتتركه يبرر هواجسه وعبثيّته كما يشاء. ذاك الأديب الشاب المقاوم، يجاهد لتحييد جريدته L’Espoir عن المعسكرات الإيديولوجيّة، ما يحيلنا على الأرجح على ألبير كامو وجريدته Combat. تحدثنا كذلك عن خلافات الاثنين المتكررة.
هكذا، تروي بوفوار السنوات الثلاث الأولى لـ «ما بعد الحرب»، في كتاب بدأته «روايةً خفيفةً» عام 1949، ولم تفرغ منه إلا مجلّدين سميكين نالا جائزة «غونكور» عام 1954. حينها، كانت مكرّسة بفضل أطروحتها المرجعيّة «الجنس الثاني»، وعاشقةً حتّى الذروة بفضل نيلسون ألغرن. نشهد تفاصيل ذلك الحب العاصف في «المثقفون»، من خلال علاقة آن بالكاتب الأميركي لويس بروغان، وسفرها الدائم للقائه، ثمّ محاولتها الانتحار بعد نهاية علاقتهما. نكتشف كيف تفلّتت سيمون من أثر سارتر وحنكته، وبدأت تبحث في الرجل عن أشياء أخرى، عن جسد مثلاً! في خضمّ ذلك، شهدت صديقتنا على الشرخ بين سارتر وكامو، بعد إصدار الأخير كتابه L’Homme Révolté «الثائر» (1951)، وما تضمنه من مراجعة لأنتروبولوجيا الثورة، تنتهي بإعلان النازيّة والستالينيّة وجهين لعملة واحدة ــ ما دفع سارتر إلى رمي الحرم على صاحب «الطاعون»، وطرده من أبرشيّة «المثقفين الملتزمين».
هؤلاء تحديداً هم كلّ الرواية. بين المقاهي والمنازل والمسارح، وفي حواراتهم التي تأخذ الحصّة الأكبر من السرد، نكتشف مجموعة نصّبت نفسها ذات يوم أنتلجنسيا، وأعلنت: «يجب أن نمنح إيديولوجيّة
أسئلة عن دور المثقف ومسافته من الالتزام السياسي والتماهي مع الجماعة
لما بعد الحرب». كان الناس يدلّون على أبناء تلك الفصيلة بالأصابع، باعتبارهم مجموعة نجوم، لا جمعاً عشوائياً من أهل القلم، وكانت الصحف تسميهم Les Intellectuels (المثقفون). يفقد التعريف حين ننقله إلى العربيّة قيمةً مضافة تعطيه إياها لغته الأم. فالـ «إنتلّو» intellos في هذا المفهوم ـــ الفرنسي بامتياز ـــ ليسوا متعلمين أو ناشطين فحسب، بل قبل هذا وذاك هم مفكرون. إنّهم بتعبير أدقّ مفكرون في موقع القرار (معنى Mandarins، عنوان رواية بوفوار، في الصينيّة)، يخوضون صراعاً مرهفاً، صامتاً حيناً وصاخباً حيناً آخر، بين الوجوديّة والعبثيّة، ويخطّون «مانيفستو» للتيارات الأدبيّة والفكريّة والفنيّة التي واكبتهم أو أتت بعدهم، رغم خيباتهم، وقلقهم. كانت سيمون تحفظ كلّ ذلك في قلبها.
النتيجة ما نقرأه اليوم، مترجماً للمرّة الأولى إلى العربيّة. تختصر سنوات الزمن الروائي الثلاث، عقداً صنع صورة النصف الثاني من القرن العشرين، وأسئلة بقيت تُطرح طويلاً عن دور المثقف ومسافته من الالتزام السياسي والتماهي مع الجماعة. نقرأ مساءلةً لمفهوم اليسار، والصراع على صكوك ملكيته بين اليسار الشيوعي واليسار غير الشيوعي. عن قيمة الأدب كوسيلة لتغيير المجتمع، أو كموقد لتطهير الذات. وأيضاً، عن معنى «ثقافة، ذاك الفعل الذي يقضي بألّا يوقف الإنسان الكلام عن نفسه». نقرأ أشباهاً أدبيّة تراجع، تقارع، تهزأ، تساجل. كأنّنا نستعيد تلك الرواية والسيرة والرؤيا، ونحن واقفون هناك، في الخانة الأولى، عند النقطة الصفر.
ماري طوق… ذات حرب برفقة السيّد كواباتا
بدأت قصَّة ماري طوق (1963) مع الترجمة مصادفةً. حين كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، حاصرت الحرب الأهليّة ابنة منطقة بشرّي، وانقطعت المواصلات والكهرباء. في أحد أيام الثمانينيات العقيمة، قررت، على ضوء الشمعة، أن تترجم «الجميلات النائمات» لياسوناري كواباتا، «حتّى أتسلّى»، تقول. «صديقةٌ لي حملت النصّ إلى إلياس خوري، وكان مسؤولاً عن الصفحة الثقافيّة في جريدة «السفير». نشر مقطعاً، وأخذ الكلَّ إلى «دار الآداب».
أعجبت الترجمة الراحل سهيل إدريس، فنشرها، وجاءتني الكاتبة نجوى بركات بنسخة منها إلى بشرّي». ضحكت كثيراً وهي تخبرنا «مغامرتها» تلك. الفتاة المتأثِّرة بأجواء يساريَّة نافرة عن سياق بلدتها المارونيَّة، لم تتوقَّع نشر ترجمة أنجزتها لتعبر الوقت البطيء. منذ ذلك الحين، ترجمت طوق مؤلّفات عدة منها «أوريليا» لجيرار دو نرفال، و«المرأة العسراء» لبيتر هاندكه، وأخيراً «المثقفون» بصفحاتها التي تفوق الألف. تأسف السيّدة التي عملت طويلاً في المجال لخواء المكتبة العربيّة نسبياً من الترجمات الجديّة، وخصوصاً مع سيطرة تابوهات تمنع ترجمة نصوص جريئة، أو تحوّرها إن ترجمت.
ترجماتها تجمع الموهبة الأدبيّة والتمكّن اللغوي
ترجمات ماري طوق تجمع الموهبة الأدبيّة والثقافة والتمكّن اللغوي. أستاذة اللغة الفرنسيّة في المرحلة الثانويّة، تعيش اليوم مع زوجها في جبيل. في أحد مقاهي المدينة، جلست تخبرنا عن رحلتها مع رواية بوفوار. «لم تكن ترجمة بسيطة، وخصوصاً أنَّ العمل يفترض بمترجمه نقل نفسه إلى سياق الكتابة التاريخي». هنا تداخل اللغوي في الاجتماعي والسياسي والفلسفي والجمالي. خلال الأشهر الأربعة التي رافقت فيها المجلَّد الضخم ــ بعدما طلبت منها «دار الآداب» نقله إلى لغة الضاد ــ دخلت طوق في عمليّة تدقيق شاقَّة، وهذا ما نلحظه في إشارات تعرّف مقاطعة هنا، أو جنرالاً ألمانياً هناك. تسرّ لنا طوق بمثال تطلَّب الجهد الأكبر: «خشيت أن تكون عبارة SRL إحالة إلى تنظيم حقيقي. رحت أمحِّص في كتب التاريخ والقواميس، حتّى إنني اتصلت بـ«مؤسسة بوفوار» في فرنسا من دون إجابة… عرفت في النهاية أنَّ التعبير من اختراع المؤلِّفة وليس له مرادف حقيقي». عموماً، ترى طوق أنّ «الترجمة الناجحة هي التي تستطيع إقناع القارئ بأن العمل يتوجّه إليه اليوم وبلغته. ومهمَّة المترجم إيجاد المعادلة الأصوب والمناخ الأشدّ جاذبيّة وأسراً».
يبقى «الجميلات النائمات» الكتاب الأحبّ إلى قلب ماري طوق، لكنّها بنَت مع «المثقفون» علاقةً مختلفة. أعادتها قراءة الرواية بتمعّن إلى سنوات الأحلام الكبرى. «جيلنا عاش اليسار تحت جاذبيّة الفلسفة الوجوديّة. بحث الإنسان عن الحريّة وتحدّي الواقع داعب مخيّلتنا طويلاً… لقد عشنا هزائم وانتصارات لا نعرف إن كانت حقيقيّة أو لا».

الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى