الفلسفة تكشف أسرار الأدب
مراجعة: هاشم دبس
يطرح هذا الكتاب إشكالية العلاقة بين الأدب والفلسفة عبر تحديده لمفهومهما والتداخل القائم بينهما. فمفهوم الأدب طرأت عليه عدة تحولات وخضع لكثير من الدراسات النقدية، وقضيته مطروحة من قبل الفلاسفة من سارتر الى بارت.
إن الأشكال المعرفية في النص الأدبي ليست معطاة مباشرة بل يجب أن تنتزع من النص الذي بدوره يتوالد باستمرار عبر قراءات متعددة تسقط الحتمية والموضوعية المطلقة، وقد فتح الأدب للفلسفة منافذ جديدة وبذلك حرر النص الأدبي الفكر الفلسفي من جموده وعبوسه ومنحه شيئاً من الحيوية.
هل يمكن القول إن الفلسفة ليست سوى أدب؛ هايدغر يؤيد هذا الرأي، فيرى أنه يجب ألا نمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد. لطالما كان هناك مواجهة بين الفلسفة والأدب بالرغم من أنهما يمتزجان امتزاجاً معقداً، ويجب علينا أن نتبين ما هو فلسفي وما هو أدبي في النص وحل النسيج الذي تتداخل فيه خيوطهما والأشكال الجديدة الذي ينتجه هذا التداخل من التعابير والصور والمعاني هو ما يتيح لنا أن نتكلم عن فلسفة أدبية.
يتناول المؤلف أعمال بعض الكتاب الذي ضمنوا في كتاباتهم أفكاراً فلسفية: دو ستايل، صاند، باتاي، كينو، سلين، فوكو.
واجهت مدام دوستيال مشكلة الثقافة، أي واجهت مشكلة الثقافات والتداخل بينهما كمسألة مجردة تتعلق بالانتقال من العام الى الخاص.
أما جورج صاند فتحدد: دور الكاتب ليس الدفاع عن أفكار بالاستناد الى براهين عقلية بل هو بالأحرى إثارة أسئلة يبقى الجواب عنها معلقاً.
أما كينو الذي قطع مع الحركة مع السوريالية وكان تلميذاً لكوجيف في فهم مبادئ الهيغلية، كانت روايته “يوم أحد الحياة” ذات عنوان هيغلي متأثراً بشرح كوجيف لفينومينولجيا الروح لهيغل. في حين يرسم هوغو صورة للمجتمع الفرنسي بما فيه من اختلافات وتناقضات وصراعات وحركة المجتمع في صعودها وهبوطها وما تنتجه من بنى جديدة، وهذه الحركة هي صنيعة الجماهير السفلية التي يشبهها بالبحر والليل والهوة المظلمة. إن هوغو يذهب الى الأعماق لسبر هذه الحركة لكتابة رواية المجتمع.
في روايته “أيام سادوم المئة والعشرون”، نرى عند المركيز دو ساد السرد الخيالي في كتابة من نمط جديد، يدعمه منطق التدنيس والتخريب وإبداع نظام جديد يخضع لقوانين الطبيعة حيث السيطرة للأقوى، والخير والشر مسألة نسبية، فهما لا يكفان عن تبادل التأثيرات وتداخلهما. وساد يقيم معادلة أخرى لعلاقة الرغبة باللذة، فالرغبة هي التي تبعد اللذة عن غايتها الأصلية، لذلك يجب قطع الرابط بين الرغبة واللذة. وهناك الأخلاق السادية التي هي علاقة بين الجلاد والضحية، ولكنها لا تنعكس بل هي في اتجاه واحد.
في كتابه “تجربة القديس انطونيوس” والذي يقرأ كنص يخضع للعمل بشكل لا ينتهي، نشعر أنه تجربة فلوبير نفسه، فالعالم كتاب شهادات آثار الحضارة وقد اختصرت منها كل أحلام الإنسانية وأفكارها وعبر الأساطير نرى الحركة التطورية التي تتوسع ثم تنحل وتدخل في الظل بالتتابع وهي تكمل دورة تحولاتها.
إن الرتابة التي تطبع كتابة فلوبير تؤدي الى أن مضمون رؤى الإنسانية فعلياً باطل وهو ليس شيئاً، كتاب مدام بوفاري كتاب عن لا شيء وبعد قراءته نخشى ألا نجرؤ حتى أن نعيش.
إن الفكرة التي تتكرر على مدى كتاب فوكو عن روسيل هي العلاقة الجوهرية التي تربط اللغة بالموت والاستخدامات الجديدة للغة كالآلية التي ترفع الرقابة المفروضة على استخدامها من قبل العقل الواعي وتفتح الطريق إلى عالم الخيال والحلم كما بيان السوريالية الأول، إن إعدام اللغة هذا هو إعدام بواسطة اللغة، إن روسيل يعلمنا أن نرى الأشياء من وجهة نظر موتها ومن ثم يعلمنا أن نموت.
والحال، عندما نتكلم عن فلسفة أدبية نرغب بتبني توجه مختلف، وذلك لطرح موضوع علاقات الأدب بالفلسفة بتعابير لا تتعلق بالتموضع (حيث توزع المواقع) بل بتعابير الإنتاج. نتساءل عن الطرائق وهي حتماً متنوعة التي بموجبها تستطيع الفلسفة أن تتعاطى الأدب والأدب أن يتعاطى الفلسفة.
أي نوع من الفكر يتولد في النصوص الأدبية، من الوهلة الأولى يمكن تعريفه كفكر أعمى وأبكم وانبثاقه الفظ الذي يقطع خيط خطابها المطرد ظاهرياً عليه أن يفتح في هذه النصوص بعداً جديداً.
ولكن الفلسفة ليست لاوعي الأدب بحيث أن معالجة نظرية تؤدي اليه وكأن الكتابة النصية تحلله، إذ تعرضه الى تدخل الآخر الذي يعيد إليه هويته المفقودة أو المنسية، ذلك أن الفكر الذي يرافق كل الآثار الأدبية لا يرد الى وعي خارجي، يكشف الأدب أسراره، معترفاً في الآن ذاته أن هذه الأسرار تمتلكه أكثر مما يمتلكها، بل إن هذا الفكر يتوافق مع التفكير الذي لا يكف الأدب عن أجزائه وهو ينتج نصوصه، عند ساد وفلوبير وروسيل وكيف تحقق الكتابة معنى وهذا المعنى ليس كامناً أبداً، ولو تطلب إدراكه قراءة يقظة ومتقنة.
إذاً، يعود الى الأدب التعبير عما هو فلسفي في الفلسفة، يعني ذلك أن العلاقة الخاصة بين الأدب والحقيقة هي علاقة نقدية بشكل أساسي. فبهذه الطريقة تبين الفلسفة الأدبية أيضاً العلاقة التي يستحيل فكها والتي تربط الحقيقة بالتاريخ، وهنا يكمن دورها الأساسي.
عصر الأدب من ساد إلى سيلين يطرح أمامه ليس رسالة إيديولوجية بل مخططاً مستقبلياً، وهذا المخطط غير منفصل عن عرضه بجميع أبعاده، ما يظهر سببيته. من وجهة النظر هذه، يغدو النصيب الفلسفي للأدب هو أن يسمح برد كل خطابات الفلسفة الى العنصر التاريخي.
من ساد إلى سيلين يبدو أن الأدب كرس نفسه لعرض كل ما لم يكن ينبغي قوله، فهو يرسل لنا من العالم التاريخي الذي نعيش صوراً منحرفة ومشوهة كما لو كانت هذه الصور تتكون في مرآة محطمة بحيث يولد العالم في الضوء القاسي والساخر.
[ الكتاب: بم يفكر الأدب، تطبيقات في الفلسفة الأدبية.
[ الكاتب: بيار ماشيري، ترجمة د. جوزف شريم.
[ الناشر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009.
المستقبل
«الانتظار الباطل» رواية الجنون الكوني في أفغانستان