أوروبا مرشدتنا الى قراءة أدبنا العربي
يوسف بزّي
بات من المعتاد أن تجد الأعمال الروائية العربية، الجديدة والمعروفة، طريقها الى الترجمة أوروبياً. ودور النشر هناك لا تتوقف عن طلب المزيد من النتاج الروائي العربي. معظم الروائيين المكرسين تم نقل أعمالهم الى الفرنسية والانكليزية والايطالية والاسبانية والألمانية.
ويمكننا ان نتحدث هنا عن نجومية وشهرة أصابت بعض الروائيين العرب في باريس ولندن وبرلين. وهي نجومية لم يحظ بها حتى نجيب محفوظ. ولم يعد يقتصرالأمر على كتاب فرانكوفونيين أو انكلوفونيين، فالكاتب المصري علاء الأسواني يكاد في ذيوع كتبه وانتشار اسمه، ان يضارع شهرة الروائي التركي اورهان باموك مثلاً.
الأمر المؤكد، خلال العقد المنصرم، أن أوروبا اصبحت “سوقاً” للإنتاج الأدبي العربي. ودور النشر لم تعد تكتفي ـ كما في الماضي ـ بانتقاء رواية عربية واحدة، او بلفتة اكزوتيكية موسمية تجاه كاتب عربي. فهي اليوم تنتج ترجمات سنوية لعدد كبير من الروايات العربية.
الأدب النسوي العربي أيضاً له حظوة خاصة في الترجمة الأوروبية، مع اهتمام استثنائي بالكاتبات العربيات، نراه في الإصرار الأوروبي على حضورهن المتواتر والدائم في المحافل والمنتديات والمهرجانات الثقافية.
ويمكننا القول هنا ان ما من كاتبة عربية، بغض النظر عن نوعية نتاجها الأدبي، لم تجد تكريماً أوروبياً أو ترجمة أو “حضوراً”. فما يكتبن هو بمثابة السحر في عيون الأوروبيين.
في العقد الأخير، بات من النادر ان يقام اي نشاط ثقافي أوروبي أو مهرجان أدبي في أي عاصمة أوروبية من دون مشاركة عربية ملحوظة. في معرض الكتاب الفرنسي عام 2007 مثلا اقيمت حفلات توقيع كتب لأكثر من 25 كاتباً عربياً دفعة واحدة. في هذا الصيف كان هناك 90 شاعراً في مهرجان لوديف الفرنسي للشعر. نصف الشعراء تقريباً كانوا من العرب.
اضافة الى كل هذا يمكننا ان نشير الى كتاب عرب أوروبيين، اي يعيشون ويكتبون وينشرون في بلادهم الجديدة. ثمة أدب عراقي كامل لا علاقة له بالعراق ينتج في السويد والدنمارك والنروج وهولندا وبريطانيا وكندا. وهناك كتاب مغاربة وجزائريون وتونسيون وليبيون لا صلة لهم بأدب بلدانهم الأصلية نتاجاً وتسويقاً، حتى ولو كانوا يكتبون بالعربية، يملأون أرفف المكتبات الأوروبية بقصصهم ورواياتهم.
لم يعد الأمر “ظاهرة” بقدر ما صار “تقليداً” ثقافياً أوروبياً، ويمكننا هنا ان نمسح الغبار القديم لسجالات التوجس والريبة وشعارات “الكولونيالية” و”الاستلاب الثقافي” و”التبعية” و”التمييز”.. الخ ونتحدث عن احتفاء أوروبي بآدابنا من غير ان نعير ذلك انتباهاً واضحاً، طالما انه يحدث تلقائياً وعلى غفلة منا.
الانجذاب الأوروبي نحو الثقافة العربية لا يقتصر أبداً على فن الرواية. فمن دون مجازفة يمكننا القول ان من أشهر الشعراء في أوروبا اليوم أدونيس ومحمود درويش، فيما أسماء شعراء عرب آخرين تحظى بتقدير واسع مع تنامي ترجمة الشعر العربي أيضاً.
بهذا المعنى لم تعد علاقة الكاتب العربي مع القارئ الأوروبي عرضية أو هامشية. فعلى الأرجح أن مخيلة الكاتب العربي باتت تضع قارئها الأوروبي بوصفه “القارئ” الافتراضي، وتخاطبه هو، وربما سيكون لهذه العلاقة أثر بارز في مسار تطور الكتابة الأدبية العربية نفسها، وفي سياق “الاستجابة” للمزاج الأوروبي، وسيكون اعتباطياً اي استنتاج راهن في السلبيات أو الايجابيات التي سيتركها اثر تلك العلاقة. وفي المقابل فان المخيلة الأوروبية نفسها سيطرأ عليها تبديل في رسم “صورة الآخر” أو صورة “الشرق” بأثر من الأدب العربي ولغته، وستختلف بطبيعة الحال عن استشراقية الف ليلة وليلة ورباعيات الخيام وحارات نجيب محفوظ وسهرات أم كلثوم. انها صورة عن عالم عربي أكثر تعقيداً وتلويناً، ومليئة بتفاصيل التمايزات والاختلافات.
من الاشارات المهمة لهذه العلاقة الاستثنائية ما بين الأدب العربي والقارئ الأوروبي هو هذا التغير في نمط التسويق أو في شروط تحصيل “النجاح الأدبي” عربياً. فالكثير من الروائيين العرب حصدوا انتشاراً عربياً واقبالاً على رواياتهم محلياً، بعد ان نالوا اهتماماً أوروبياً أو صدرت ترجمة روايتهم في لغة أجنبية. كما تتهافت دور النشر العربية على نشر الروايات اضعاف ما كانت تنشره في سنوات سابقة. ثمة غزارة استثنائية في انتاج الرواية العربية، الى جانب “ثورة أدبية نسوية” (على الأقل في الكم).
النمط الآخر الذي تغير هو طرائق “التكريس” ومظاهر المكافأة، فبعد ان باتت الجوائز الحكومية العربية “مشبوهة” ولا تبعث على الافتخار او الثقة، وبعد تهافت الكثير من الجوائز التقديرية التي تمنحها مؤسسات خاصة، تبرز اليوم مثلا “جائزة بوكر” كنسخة عربية لـ “بوكر” البريطانية، او “غونكور” الفرنسية. ليس مهماً هنا ما يقال في تجربة “بوكر” العربية، لكن من المهم هو ملاحظة المحاكاة مع أنظمة الجوائز الأوروبية.
في العقود الماضية كانت “الثقافة العربية” تترجم نفسها في “مجتمع ثقافي عربي” أي أن المثقفين والكتاب والشعراء العرب كانوا نسبياً يشكلون مجتمعاً متجانساً عابراً لحدود الدول العربية. كانت العلاقات الاجتماعية والشخصية وطيدة، والتواصل بين أفرادها كان متواتراً ويتسم بالمعرفة الحميمة، وكان يسهل ذلك وجود “عواصم ثقافية” محددة، تشكل نقاط جذب لهذا المجتمع، وتتيح تشكيل كتلة اجتماعية عربية متعددة الجنسيات، منها خصوصاً بيروت والقاهرة، فيما كانت المهرجانات التقليدية السخية، السنوية والموسمية والكثيرة ما بين بغداد ودمشق والكويت وتونس… الخ. تشكل مناسبات احتفالية ـ اجتماعية متواصلة تجدد وشائج تلك الصلات وهذا المجتمع المؤلف من جماعات الكتاب العرب.
هذا “المجتمع” بدوره اصابه الانحلال والتفكك، بواقع الكوارث السياسية أو بواقع تعاظم الانتباه للخصوصيات الثقافية الوطنية في كل بلد عربي، وأحياناً كثيرة بواقع طغيان الهجرة والمنفى، بحيث ما عاد هناك من “مدينة” للمثقفين العرب.
والواقع الجديد أن أوروبا نفسها ومدنها باتت الى حد بعيد هي المكان الذي يتلاقى فيه الكتاب العرب. وكأن اوروبا باتت هي “رصيف” المثقفين العرب. طالما انهم يجدون أنفسهم آتين من بلدانهم المتباعدة، على نحو دوري للمشاركة معاً في التظاهرات الأدبية والثقافية الأوروبية التي لا تتوقف على مدار السنة. بل ان طبيعة “اللقاءات” نفسها اصبحت مختلفة عن تلك التي تحدث في الأمكنة العربية، اذ ان السجالات في ما بين الكتاب تبدو في المكان الأوروبي أكثر وضوحاً وصراحة وحرية، والكاتب العربي في المكان الأوروبي يبدو أكثر جرأة ومتخففاً من الاعتبارات و”اللياقات” العربية ـ العربية.
في سياق “اوربة” الثقافة العربية، أو “تعريب” الثقافة الأوروبية، تشهد برلين ما بين 9 و19 ايلول واحدة من أهم التظاهرات الفنية والأدبية، تحت شعار “نظرة على العالم العربي”. مهرجان برلين الدولي للأدب خصص دورته هذا العام للاحتفاء بالأدب العربي. اذ سيشارك أكثر من ثلاثين كاتباً عربياً في ندوات وأمسيات وقراءات أمام الجمهور الألماني، وذلك حسب قول اللجنة المنظمة “من أجل الترويج لتفاهم متبادل وتأمين مناخ من التواصل الحي بين الفنانين والكتاب والجمهور” و”عرض الخلفية الثقافية للنتاج الأدبي العربي”. ومحور هذا المهرجان هو “تحويل مدينة برلين منبراً للضيوف العرب للتعريف بأدبهم وثقافتهم ومواقفهم السياسية” وتم تنظيم برنامج المهرجان حول الفكرة التالية” “ما هي الأسئلة المثيرة للاهتمام في العالم العربي”.
في شهر أيلول الحالي أيضاً سيتم تنظيم احتفالية أدبية في جنيف السويسرية مخصصة لاستضافة عدد من الكتاب والروائيين والشعراء العرب، كذلك سيكون هناك سلسلة من اللقاءات الأدبية العربية مع الجمهور في عدد من المدن الألمانية. وعلى هذا النحو ثمة “احتفاء” متصل بالأدب العربي في البلاد الأوروبية الى حد قد يثير غيرة الكتاب الأوروبيين أنفسهم. فمثلاً ما من مهرجان أدبي أوروبي يخلو من حفل تكريم للشاعر الراحل محمود درويش، حتى بعد أن خبت مثيلاتها في المدن العربية.
هل صارت مدن أوروبا عاصمة للثقافة العربية؟ قد يصح ذلك طالما ان معظم المثقفين العراقيين باتوا مهاجرين أوروبيين، كذلك نخبة المثقفين الفلسطينيين والمنفيين من سوريا وليبيا والجزائر والمغرب. وطالما ان المقيمين في بلداهم لا يجدون رصيفهم المشترك ومنبرهم الجامع سوى هناك في مدن القارة العجوز. والأهم من كل ذلك هو ذاك “الاغتراب” الذي لا يني يتسع بين المثقفين من جهة ومجتمعاتهم المتقهقرة أكثر فأكثر الى عصبياتها وحروبها الأهلية وأشكال ما قبل الدولة من جهة أخرى، وامعان الأنظمة في قعودها المؤبد على القمع والخواء والمنع والرقابة والتفاهة السياسية والأمية.
هكذا ما عادت أوروبا منفى أو ملجأ بالنسبة للمثقف والكاتب العربي، فهي دار نشره وقارئه ورصيفه ومنبره ومكتبته ومدينته.
المستقبل