اختزال الثقافة السورية بالدراما التلفزيونية
مايا جاموس
بات لافتاً للنظر اليوم كثافة حضور الدراما التلفزيونية السورية في المشهد الإعلامي الصحفي السوري والعربي، والأمر يتجاوز المواسم الرمضانية أو التحضير لها.
وكأن الثقافة السورية اختُزِلت بالدراما التلفزيونية. يمكن تتبُّع ذلك في أهم الصحف العربية والسورية والمواقع الإلكترونية السورية، إذ تبرز بكثافةٍ المقالاتُ والمواد المتعلقة بالدراما كتغطيات صحفية ومقالات الرأي، بل يمكن ملاحظة وجود مراسلين لتغطية الدراما السورية فحسب في بعض الصحف العربية.
وهذا الأمر يعود إلى عدد من الأسباب، أهمها يتعلق بمستوى المسموح به داخلياً، إذ إن الموضوعات العامة المطروحة للحوار والمثار حولها جدل قليلة جداً، لذا تبرز الدراما السورية خاصةً في رمضان كموضوع مسموح فيه بالمقارنة مع عناوين وحقول أخرى من الصعب رقابياً أن يُثار فيها الجدل. إلى جانب تراجع نواحٍ ثقافية أخرى، وضعف شديد في حركة النقد بشكل عام (أدبي، فني، فكري…). ومن جهةٍ أخرى فإن الدراما في سورية صارت مادةً للزهو والاستعراض، وتحولت خلال فترة قصيرة إلى منتَج يحتاج إلى الحماية والتطوير فأنشئت لها قناة تلفزيونية خاصة وملحق صحفي.
ترافق الأمر مع تناقضات سياسية عربية (مع مصر والسعودية بشكل خاص) لعبت دوراً في إبراز موضوع الدراما على السطح سلباً أو إيجاباً، وتمّت محاولات لعزل الدراما السورية من قبل المصريين والخليجيين. في هذا الوقت قامت الحكومة السورية بدعم الدراما. تلك التناقضات على مستوى الدراما برزت منذ عدة سنوات بالمقارنة مع تراجع الدراما المصرية، والحقول العامة للفن والإبداع في مصر، كان من الطبيعي أن يكون لهذا الأمر خصوصية في سورية بسبب طريقة المصريين في التفكير تجاه مصر والإبداع فيها باعتبارها (أم الدنيا)، وسلوكهم مع الآخرين الذي حمل الأخطاء بسبب التعالي والفوقية والعزل والعقوبات. مما أوجد نوعاً من التنافس لدى السوريين والخليجيين لاحقاً، ورغبةً داخلية بسبق الحالة المصرية. يضاف إلى ذلك أن الأمر برمته كان جزءاً من وضع سياسي عربي جعل الحوار والمقارنة بين الدراما السورية والمصرية دائماً في مقدمة الإعلام العربي عموماً، وحصلت عمليات استغلال للتناقضات السياسية مرة من هذا الطرف ومرة من ذاك، مما أعطى الأمر حيوية إضافية.
لكن الدراما السورية، والحقّ يقال، متطورة ومتميزة خاصة بالمقارنة مع مجالات إبداعية أخرى كالمسرح والسينما في سورية التي تكاد تكون ميتة. أو بالمقارنة مع حركة التأليف والنشر الإبداعي. ولهذا التميز أسبابه الخاصة، إذ هنالك عدد كبير من العاملين فيها هم على مستوى متميز من القدرات الإبداعية المتطورة، كما أنهم طرقوا موضوعات عديدة لها حضور حقيقي في العالم العربي حتى في الحقول الصعبة أو تحت العتبات الحمراء، سواء في المجالات التاريخية أو الاجتماعية والبدوية والكوميدية والمحلية الشعبية.. وقد لعبت هذه الدراما وكل ما رافقها من متابعات صحفية وجدل، دوراً في رفع الحس القومي العربي وتطويره والارتقاء به خارج إرادة الحكومات والأقطار، كالدور الذي لعبته الدراما المصرية سابقاً، أو يمكن أن تلعبه الخليجية أو اللبنانية مستقبلاً.
وعلى مستوى تميز الدراما السورية نضيف أنها تحظى بدعم تمويلي هام لا يقارن إطلاقاً بدعم أي مادة فنية ثقافية أخرى، مع تصوُّر أنه لو تُرِك لها المجال بدون رقابات لكانت قد قدمت ثقافة ووعياً عاليين.
كما أن وسائل الإعلام العربية تتواطأ مع انتشار ثقافة الدراما التلفزيونية السورية، وتكرّسها لأسباب سياسية، وتبتعد عموماً عن تطوير الحقول الأخرى من الثقافة، تكاد بذلك تقدّم تنميطاً للثقافة السورية من خلال الدراما التلفزيونية. وعلى سبيل المثال إذا راقبنا ما تنشره الصحف العربية الأكثر انتشاراً عن المسرح في تونس، والسينما الفلسطينية، والمطبوعات في المغرب، فسنجد المقابل السوري هو الدراما التلفزيونية، وهذا جيّد وهامّ عموماً، لكنه بات حقلاً يُستثمَر بكل تفاصيله الهامة والبسيطة غير الهامة أو الفضائحية، لدرجة التكرار وعدم تقديم الجديد والهام من القراءات النقدية أو الملاحظات الصحفية. وهذا كله يأتي على حساب الحقول الأخرى من الثقافة في سورية كالمسرح والسينما والأدب والمطبوعات والإعلام والرقابة والعلاقة مع الخطوط الحمراء، بحيث تبدو هذه الموضوعات وغيرها مهمّشةً تهميشاً مقصوداً.
ولا ننسى أنّ الدراما مادة رابحة تجارياً (سواء العمل الدرامي أم المادة الصحفية المتعلقة به)، وهذا يجعل منها حقلاً جذاباً للكتابة والقراءة، إذ هناك الجديد دوماً من حيث المادة (الفكرية) والفنية والفضائحية.
النور