كيف بدا لي الدكتور منذر حلوم في روايته الأخيرة – سقط الأزرق من السماء
كامل عباس
لا تربطني بالدكتور منذر حلوم، جاري في اللاذقية، معرفة مباشرة، رغم جيرتنا وتقاربنا في السنّ على ما أعتقد، واهتماماتنا المشتركة على ما يبدو. وها أنذا ألتقي به على الورق من خلال روايته التي بين يدي. وقبل السفر بصحبته في ربوعها أحبّ أن أقدّمها على طريقتي الخاصة.
“سقط الأزرق من السماء” رواية عدد صفحاتها ثلاثمائة الطبعة الأولى نيسان 2009 الناشر : الكوكب ( رياض الريس للكتب والنشر ) مكان الرواية: سوريا بكلّ مدنها وأريافها. من عين الغار في اللاذقية الى القنيطرة ودمشق وحماه وغيرها . زمان الرواية: زمن دخول بدلة الخاكي مدارسنا وثانوياتنا مع مادّة الفتوة وضباطها – النصف الثاني من القرن العشرين –
شخصيات الرواية: طلاب وطالبات من أبنائنا، أهمّها شخصيتان رئيسيتان إحداهما تمثّل القطب الموجب والثانية القطب السالب .
القطب الموجب: درويش
نتعرف على شخصية الطالب درويش منذ ان كان طالبا في الصفّ الحادي عشر – الفرع الأدبي – داخل مدرسة طريق القصر القريبة من قريته – والذي كان يكره بذلة الخاكي دون أن يعرف سببا لهذا الكره. حاك درويش مقلبا أذّل فيه ضابط الفتوة بالتعاون مع تلاميذ شعبته، بعدها فُصِل من جميع المدارس الرسمية، وألغيت الشعبة، ونقل جميع طلابها الى مدارس أخرى، وأصبحت المدرسة بعد الحادثة تعرف بمدرسة الشياطين. يتمكّن درويش من التقدّم في العام التالي الى امتحانات الثانوية كطالب حرّ، وينجح ويلتحق بجامعة دمشق – كلية الفنون الجميلة – ويتخرّج منها ’ ويذهب بعثة الى الاتحاد السوفياتي بفضل وساطة أحد أقربائه الشيوعيين، وهناك يُصدَم بالواقع، فقد كان يظنّ أنّه سيعيش حياة مميّزة جدّا في بلد العدل والمساواة الذي يبني لمواطنيه جنّة على الأرض بدلا من السماء. فإذا به لا يختلف عن بلده سوريا كثيرا. وحكّامه ينظرون إلى كلّ منتقد لسلطة الدولة بأنّه من أعداء الشعب. وأعداء الشعب كثيرون جدّا تصنّفهم الأجهزة على هواها، وتراقبهم وتسدّ منافذ الحياة الكريمة عليهم وعلى أبنائهم. لم يطل به المقام هناك بسبب عقليته المتمرّدة على الظلم والقمع في كلّ مكان. ليجد نفسه أخيرا داخل الأقبية الرطبة وبين أيدي الجلادين. وبعد خروجه تلاحقه لعنة المراقبة والمطاردة الدائمة .
القطب السالب: عزيز
عزيز طالب من طلاب مدرسة طريق القصر، ومن قرية درويش عين الغار، ومن أترابه أيضا، وأبوه آذن في المدرسة، يتعاون مع الإدارة والأجهزة الأمنية، فيقدّم لهم التقارير اليومية عن أحاديث المدرّسين وتحرّكات الطلاب، والابن سرّ أبيه، فقد مشى على طريق والده فصار ينقل لأبيه أسرار زملائه ومن ثم يتولّى الوالد نقلها إلى إدارة المدرسة، ومن الطبيعي أن يصبح عضوا قياديا في وحدة الشبيبة داخل المدرسة، وأن يُكلّف بمراقبة درويش وتقديم تقارير دورية عن تحركاته. نجح عزيز في نيل الشهادة الثانوية، والتحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وصار عضوا نشيطا في اتحاد الطلبة ممّا أهّله لأن يتفرّغ داخله مقابل راتب شهري محترم، ولكن طموحه كان أكبر من ذلك، فهو يريد التسلّق على سلم القيادة درجة إثر أخرى. ومن أجل ذلك لا يتورّع عن القيام بأيّ عمل – مهما كان منافيا للقيم السماوية والأرضية- شريطة أن يرضي مرؤوسيه. وفعلا تعاون مع الأمن داخل الجامعة للإيقاع بالطلاب المشاغبين سياسيا، وبفضله اقتيد العديد منهم إلى فروع التحقيق .
البناء الدرامي للرواية :
يقدّم كاتب الرواية الجزء الأعظم من صفحاتها ضمن حيلة درامية يلجأ اليها معظم الرواة في رواياتهم: درويش في بيته العتيق داخل حيّ السجن في اللاذقية، وفي أشدّ لحظات حياته مأساوية. نتيجة اعتقاده أنّ الخوف حوّل مواطني بلده الى عجينة يصنع بها الحكام ما يشاؤون، يحلم بقنبلة هائلة تدمّر الكون بما فيه لينشأ وجود جديد لا ظالم فيه ولا مظلوم، يتناهى له أنّ صديقه عزام يبحث عنه. تعرّفا على بعضهما في ليننغراد حينما كان عزام يدرس فيها الإخراج المسرحي فترة دراسة درويش في اكاديمية الفنون داخلها. يريد من درويش أن يصمّم ديكورا لمسرحيته التي يعتزم تقديمها على خشبة المسرح القومي. وهو واثق من موهبة درويش وتحمّسه للمسرحية التي تتناول رواية جورج ارويل1984 مع تعديل بسيط ليسميها 1948 ، وليتوهّم أنّ الحيلة ستنطلي عليهم. والمطلوب بشكل رئيسيّ تصميم كرسي ضخم للأخ الكبير .
راقت الفكرة لدرويش. حتى ولو لم يكن متأكّدا من أنّ المسرحية ستعرَض بالنهاية، فهي على الأقلّ تمنحه بعض الوقت كي يفكّر جديا بالعلاقة المعقّدة بين الكرسي والديكتاتور، ومن منهما يقيّد الآخر؟ طلب من عزام الخشب والمواد الأولية الأخرى وإرسالهما الى بيته ليصمّم الديكور بهدوء ودون أن يزعجه أحد، بعيدا عن ضجّة المسرح القومي ووافق عزام على طلبه أخيرا .
صنع درويش كرسيا يحتاج اعتلاؤه إلى سلّم من عدة درجات وجعل له على ذراعيه جناحين إذا أطبق واحدهما فوق الآخر تحوّل الكرسي إلى قفص. وإلى جانبه أنشوطة يمكن أن يشنق بها الأخ الكبير من يريد بإيماءة بسيطة منه . وعند انتهاء الديكور آتاه عزام ليبلغه أنّهم طلبوا منه التوقّف عن البروفات وإخراج مسرحية تناسب احتفالات آذار . خرج عزام من الغرفة ليطرق بابها عزيز الذي يراقب درويش وعزام، ويريد أن يعرف المزيد حول مسرحية يراد منها النيل من هيبة الرئيس كما كتب في تقريره الأخير، وهو يطمح من خلال كشف أسرار العلاقة ان يرتقي درجة في سلم الوظيفة .
فتح درويش الباب: استوقفت عزيز التغيّرات التي طرأت على الغرفة. ضحك عندما رأى الكرسي الشاهق وحبل مشنقة يتدلّى أمامه، وظن أنّ دروش يفكّر بالانتحار .
أغراه درويش بالقفز على الكرسي وساعده على ذلك. وفي الحال أطبق جناحا الكرسي عليه والتفّ الحزام ضاغطا على صدره. أصبح هو الأخ الكبير. وقبل أن يتمكّن من الصراخ لتسمعه الدورية التي تراقب البيت في الخارج. وضع درويش لاصقا على فمه وخرج ليأتي بنجوى التي أحبّت عزيز يوما ما في الجامعة، وقدّمها إلى أحد أعضاء المكتب التنفيذي للاتّحاد في ليلة رأس السنة. وهي فاتحة فخذيها ليلجها بسام قبله. بعدها تعرّفت على درويش وأصبحت من أصدقائه.
خرج درويش ليأتي بنجوى لتشمت في عزيز. بقي عزيز معلقا في الانشوطة يقاوم النعاس كلّما كبا اشتدّ ضغط الأنشوطة عليه. وعلى هذه الحالة يسرد لنا الكاتب أغلب فصول روايته التي تتحدّث عن الوضع المأساوي في سوريا قبيل وبعيد الصراع المسلح بين السلطة والجناح المسلح للإسلاميين.
ملاحظات على الرواية :
بدايةً: هذه الملاحظات انطباعات شخصية من قارئ يهوى هذا النوع المميّز من الأدب، فأنا أعدّ نفسي متذوّقا لفنّ الرواية ولست ناقدا له. وسأوجز قدر الإمكان، كي يتسنّى قراءة الملاحظات من أكبر عدد ممكن من القراء.
1-إنّ موضوع الرواية الأساسي هو القمع المطبق على الشعب من قبل الأنظمة الديكتاتورية وما تفعله فيها من تخريب وتغريب، والرواية الناجحة هي التي توظّف كلّ الشخصيات والمحاور الثانوية لخدمة المحور الرئيسي. واذا لم تأت المحاور كذلك تصبح عبئا على العمل الفنّي . في الرواية محاور ثانوية متعدّدة مثل محور الجنس والفنّ والتنويم المغناطيسي وغيرها . لقد نجحت الرواية في جعل محور الفنّ ضروريا لها. وجاء مسرح العرائس مناسبا لعرض فصولها. ولكنّ إدخال محور الجنس أتعبها على ما أعتقد، وبإمكان من يريد قراءتها أن يقرأها بمعزل عن صفحات الجنس دون أن تتأثر بداية ونهاية حدث الرواية في شيء. أتساءل ما فائدة هذا المشهد الجنسي لرواية تحمل هماًّ اكبر بكثير . ص 163 (بدا كلّ شيء رائعا ومثيرا: موسيقى ساحرة ودفء وكلام عذب ولمسات خبيرة. رحنا نتمرّغ على السرير. لا أدري كم من الوقت مضى مع دفء الحب وبلله! واذا بيدين باردتين تمسكان بمؤخرتي، لم أفهم من أين جاءت هذه البرودة إلى يدي عزيز. لكنّي سرعان ما جمدت. فهاتان اليدان ليستا له. فهمت أنّ رجلا آخر يقف هناك. انتفضت من حالي مذعورة. رأيت بسام وقد أنزل سرواله … ) وإذا كانت حجّة الكاتب بأنّه يسلط الضوء على نذالة المخبرين. فما هي الحاجة لمعالجة الأفلام الهابطة التي تقدّم ممارسات جماعية للجنس. أليس من الأجدى معالجتها برواية خاصة بها؟
2-لم تأت اللغة السردية في الرواية بمستوى الموضوع الانساني والعالمي الكبير الذي تتنطح اليه، وخاصة بعض العبارات التي لها طابع محلّي بحت مثل القول ص 27 (ضربت صاعقة خرنوبة أبو يوسف فشقّتها نصفين. حرقت الصاعقة ابنة غازي وقتلته بينما بقيت جحشة ديبا على أحسن حال، ديبا حجشة حكيمة .) مع أنه يقول في أماكن أخرى (حمارة ). وعلى شاكلة تعبير الجحشة يأتي تعبير (الحاكورة). الملفت للانتباه في الأسماء أن أسماء الناس اكثر سماجة من أسماء الحيوانات، فالعنزة ساميلا والكلبة بيلا أسماء أظرف من أسماء طافش وضرغام الجراد وغيرهم. هل هذا متعمّد من الكاتب ليقول لنا: إنّ الحيوانات أفضل من أبناء هذا الزمن. أم جاء ذلك بشكل عفويّ؟ لست أدري.
3-يصحّ القول عن الرواية أنها بانوراما متنوّعة تعرض وجهة نظر الكاتب في السياسة والفلسفة والجنس وغيرها من المواضيع، وهو ككاتب مبتدئ لم يتمكّن من جعل شخصياته ذات مواصفات اعتبارية مستقلة عنه، بل إنّ غالبية فصول الرواية تشي بأنها تجربة شخصية للكاتب. فالقرية عين الغار هي قريته – الشبطلية – الواقعة على طريق القصر الجمهوري. والمدرسة هي مدرسة القرية.
4-زاد في الطنبور نغماً موضوع الرواية السياسي. فالرواية السياسية تحتاج إلى خبرة ومهارة وموهبة قلما يلجا اليها الكتاب الروائيون بداية عملهم الروائي. لكن الدكتور بدأ بالرواية السياسية فجاء حديثه في كثير من فقراتها مباشرا، والمباشرة مفسدة للعمل الروائي (كان ابو غريب قد قتل في القنيطرة. لم يصدق أن الإسرائيليين احتلوا المدينة. لم ير أي دبابة اسرائيلية. ولذلك حين أُمِرت وحدته العسكرية المتموضعة في العمق من القنيطرة بالانسحاب، بعد أن أعلن بلاغ عسكري سوري سقوط المدينة، لم يشأ الانسحاب مع وحدته. أراد أن يعرج على البيت ويرى بأم عينيه اذا كان هناك اسرائيليون أولا. لم ير ابو غريب أيا منهم . وحين لم يرهم قرّر انتظارهم في بيته لمقاتلتهم . ) ص 55 ( أما أنا فأعتقد أنهم لا يمانعون في الحديث عن الظلم في مكان آخر، وعن القمع في بلد آخر، بل هم يتمنّون أن يحكى عن التعسّف في جميع بلدان العالم، فذلك سيجعل من تعسفهم شيئا طبيعيا ) ص 80 ( لا أحد يعيش الى الأبد، واذا كان ثمة أبد فلا حاجة به إلينا. لا بدّ أنّ الأبد تجاوز عصر العبودية، أما نحن فما زلنا عبيدا ) . إنّ ملاحظاتي هذه لاتقلّل من أهمية الرواية وما تقدّم من فائدة ومتعة معا لمن أراد من شبابنا أن يكون جادا في حياته، ولا تصادر حق الدكتور في أن يبدع ضمن حقل الأدب، فالنقد يلهث دائما وراء الإبداع، ومقاييسه مستخلصة من الأعمال الإبداعية العظيمة .
أصل الى الإجابة على السؤال الذي طرحته في العنوان . لقد بدا لي الكاتب شخصية واضحة وشفافة وعميقة ومعجونة بكره الاستبداد الذي يجثم على صدورنا، وروايته لا يوجد فيها تلميحا ولا تصريحا ما يفيد بأنّ العلّة في الخارج الطامح بثرواتنا كما يفعل بقية زملائه من كتاب الحركة الوطنية السورية (العلّة كامنة فينا) . وقد بدت لي قامته في السياسية أطول بكثير مما هي في الأدب. وأتمنّى من كلّ قلبي أن يأتي عمله التالي بقالب سياسي صرف، فقد يكون أغنى وأشمل وأمتع وأكثر فائدة للمجتمع السوري على ما أعتقد .
موقع الآوان