صفحات ثقافية

عن تشي غيفارا مرّة أخرى: تلك الفتنة التي لا تُبلَغ

null
حسن داوود
تردّد الشاب الجالس داخل شبّاك التذاكر بعد أن قلت له إنّني أريد بطاقة لفيلم تشي غيفارا، الذي يُعرض في إحدى صالات السينما الثماني. قال إنّني سأكون وحدي هناك في الداخل. ولا أعرف إن كانت قلّة الإقبال هذه مختصّة بفيلم غيفارا وحده، أم أن حال الأفلام جميعها متشابه في عرض الخامسة هذا، في هذا اليوم من شهر رمضان. بعد أن أجرى الشاب إتصالا بالهاتف، أَذن لي بالدخول. كانت الصالة فارغة إلاّ من امرأة في نحو السبعين تجلس في أقرب المقاعد إلى بوّابة الصالة. سألتها إن كنتُ قد قصدتُ الصالة الصحيحة، فأجابت بنعم: “غيفارا”. لكنها، منذ أن بدأ عرض الفيلم خرجتْ، ما جعلني أظنّ أنّها ربما كانت تنتظر أحدا تأخّر عنها، فبقيت على مقعدها بعد انتهاء العرض الذي سبق. أما الشابّ والفتاة اللذان دخلا معا بعد ذلك، فقد خلّصاني من شعوري بأنّي أكلّف أصحاب السينما أكثر مما دفعت لهم. كانا في عشرينيّاتهما، من الجيل الذي ظننته يعرف تشي غيفارا من تجدّد نجوميّته التي أعيد بعثها منذ نحو خمس سنوات أو ستّ. ولا أعلم إن كان ذلك الإنبعاث لصورة الرجل قد ترافق مع إعادة إحياء سيرته وتاريخه، أم أنّ ذلك الجيل اكتفى من سيرة تشي بأيقونته. تلك التي قد تأتي بها كاملة صوره الفوتوغرافيّة، جميلا يقظا ومتوثّبا، إلى حدّ أنّ الممثّلين العديدين الذين قاموا ببطولة الأفلام التي أنتجت عنه، لم يدانوه قطّ في أيّ من هذه الصفات.
بل أن صورة تشي كانت تخسر في كلّ مرة كانت تُنقل فيها إلى الشاشة، إذ أن أيقونيّته ظلتّ محتواة بتلك النظرة المازجة بين البطولة والوسامة، وبين شجاعة الثوريّ ورومنطيقيّة الحالم. ربما كان تشي الرجل التاريخي الوحيد الذي تُحقّق صورته ذلك التوحّد بين البطل وهيئة البطل. نحن، بسبب تأثيرات غامضة ربما كانت السينما في طليعتها، اعتدنا أن نجعل لكل دور من أدوار البشر هيئة تناسبه (البطل في هيئة البطل، والعاشق في جمال العاشق، والسارق في خسّة السارق إلخ..) وذلك قبل أن تفجعنا معرفتنا، في سنوات توهّم البطولة من كان يمكن للتاريخ المقبل أن يجعلهم أبطالا كاملي الصفات.
ربمّا كان تشي غيفارا هو الوحيد الذي لا تخذل صورتُه تاريخَه أو تحبطه. عمر الشريف في أدائه دور غيفارا، في الفيلم الذي أخرجه ريتشارد فليتشر، كان أقلّ وسامة وحضورا مما ينبغي لتحقيق ذلك التماثل، ولو النسبي. بينسيو دل تورو، بطل الفيلم الأخير هذا، على الرغم من وسامته الأميركيّة اللاتينيّة، وعلى الرغم من فوزه بجائزة أفضل ممّثّل عن دوره هذا (في مهرجان كان)، إلاّ أنّه، هو أيضا، كان أقلّ جاذبية مما كان عليه الرجل الأصلي، تشي غيفارا. كان مخرج الفيلم ستيفن سودربيرغ، ومن قبله كاتب السيناريو بيتر بوتشمان، قد قصدا إلى ذلك مخالفين ما جرت عليه الأفلام السابقة عن تشي. لا ينبغي أن نصوّره كشخصيّة سينمائيّة، قال بوتشمان ليتبعه سودربيرغ بعد ذلك، أي أن لا يظهر في لقطات يبدو فيها رمزا لنفسه، بل أن نتنقّل معه في أطوار حياته، بدءا من التقائه بفيديل كاسترو والرفاق الآخرين على متن المركب المتّجه إلى كوبا في العام 1956، وصولا، في هذا الجزء الأوّل (الذي سيعقبه جزء ثان يصوّر انتقال غيفارا إلى بوليفيا والمصير المأساوي الذي لقيه هناك)، إلى انتصار الثوّار ومغادرة الرئيس الكوبي فولجنسيو باتيستا هافانا، هاربا.
من أجل أن لا يُكتفى من الفيلم بتكرار، ولو أفضل، لما سبقه، عمل كاتب السيناريو سبع سنوات في جمع المعلومات عن حياة غيفارا، بادئا بمذكّراته، تلك التي شاهدناه مواظبا على كتابتها في مواضع مختلفة من سياق الفيلم. كما أنّه جمع شهادات كثيرة ممّن عرفوا تشي في حياته وبينهم ثلاثة ما زالوا أحياء ممن قاتلوا معه في كوبا وبوليفيا.
في هذه السيرة السينمائيّة الأكثر تفصيلا رافقنا الثوّار في مسيرتهم الطويلة متنقلين في الغابات والقرى المنتشرة عند أطرافها، كما في المدينة التي آذن إنتصار الثوّار على حاميتها العسكريّة بسقوط كوبا في أيديهم.المواجهات المدينيّة تلك خلت، في الفيلم، من التصوير الكثير المؤثّرات، الصوتيّة والمشهديّة، إلتزاما من مخرجه بالبقاء ضمن ما يمكن اعتباره واقعيّة تلك الحرب. لا مشاهد فائضة البطوليّة مثلما نرى في الأفلام الأميركية، لا استخدام للّقطات المبالغة في تصوير الحرائق والدمار الذي ينجم عن إصابة الأسلحة الثقيلة أهدافها. لم تقف الكاميرا عند الدبّابة التي أصابتها قذيفة الاينيرغا لتوّها، ولم يُبقنا المخرج متفرّجين على انهدام قلعة الحامية. أما حركة المقاتلين، وبينهم قائدهم تشي، فبدت، هي الأخرى، مطابقة لتحرّكات المقاتلين في الأحياء المدينيّة، وهذا ما أمكن للّبنانيين من مشاهدي الفيلم أن يختبروه بالنظر إلى حدوثه في أحيائهم بين ظهرانيهم.
بدا غيفارا في الفيلم أكثر عاديّة ممّا هو في الصور المتخيّلة عنه. في الكثير من المشاهد رأيناه من دون جاذبيّته التي آثر المخرج وكاتب السيناريو أن يضفياها عليه في خطبته فقط، تلك التي ألقاها في مبنى الأمم المتحدة. في تلك الخطبة والمؤتمر الصحافي الذي سبقها، أو أعقبها، أراد المخرج أن يرينا افتتان الأميركيين به، على الرغم من تجمّع كثيرين منهم هناك، مدينين إيّاه في لافتاتهم التي يحملونها، وبالسباب الذي يصفونه فيه بالمجرم والقاتل.
فقط في تلك المشاهد المصوّرة بالأسود والأبيض، والتي توالت مخترقة الفيلم لتبدو كأنّها مقاطع مأخوذة من فيلم وثائقي، ظهر غيفارا في الصورة التي صنعتها أسطورته. أمّا في مشاهد المواجهات العسكرية في الغابات، وفي التعامل مع الفلاحين أبناء القرى، فقد زوّد الفيلم بطله بالصفات التي كانت شائعة في أيّام ثورته، مثل اهتمامه شخصيّا بتعليم الكقراءة والكتابة لأميّي الفلاحين الذين انضموّاإلى ثورته، ومحاسبة من يعتدي منهم على أهل القرى، واستمراره في رفض تلقّي المساعدة حين تأتيه نوبات الربو قوّية فتتعب جسمه وتكاد تمنعه من متابعة المسير.
في مشاهد الحرب بدا تشي حاملا للصفات القديمة التي تعود إلى أيّام ما كان ملهما لمعاصريه، هذه الصفات التي لا أحسب أن الأجيال الحاضرة مكترثة بها. ذاك أنّ صورة المقاتل “الثوري” قد تغيّرت منقلبة رأسا على عقب. أخلاف غيفارا من المقاتلين جُرّدوا من الميزات التي كانت لأسلافهم، إذ أنّ الزمن تغيّر عما كانه، فبات المحاربون لإسقاط أنظمتهم أشتاتا من ميليشيات لم تزد على هممها القتالية صفة أو ميزة قابلة للتعاطف والتأييد. لا أعرف إن كان منصفا قصر هؤلاء الجدد على الفصائل المسلّحة في أفريقيا وآسيا، أولئك الذين، بعد سنوات الستين تلك، لم يحقّقوا لا نصرا ولا سمعة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى