صفحات مختارةميشيل كيلو

هل كل احتجاج فتنة؟

ميشيل كيلو
في السنوات الخمسين الأخيرة، ومع سيادة فكر علماني استعار كثيرا من مفرداته وآليات تفكيره من الفكر الديني، الذي يفترض أنه نقيضه، ساد مفردات غير علمانية في الفكر السياسي العلماني، وصار ممثل هذا الفكر ‘معصوما ‘، ومواطنه رعية، فهي إما عاصية أو طائعة، وانقلب الحكم إلى تكليف شبه رباني : أليست إرادة الشعب من إرادة الله، والشعب هو الذي خلع على الحاكم شرعيته،
وغدا أي اعتراض بسيط على أي شأن تافه ‘فتنة أشد من القتل’، وأخيرا، بات على الناس قبول حكامهم مهما كانوا ظالمين، إما لأن الله ابتلاهم بهم كي يبلوهم – يختبرهم -، فلا يحق لهم إبداء أي ضيق بهم أو تذمر منهم، وإلا كفروا بالاختبار الإلهي، علما بأنه نعمة منّ الله بها عليهم، أو لأن الفتنة ستصيب الأمة بضرر أشد بكثير من ضرر الظلم الحكومي، فلا بد أن تصبر عليه، وتوكل أمرها إلى الله، رب العالمين الذي لا ينسى عبيده، وإن كان يمتحن إيمانهم وصبرهم وطاعتهم.
في هذا الجو، تم تحريض المواطنين بعضهم ضد بعض بواسطة أفكار ومفردات علمانية الشكل دينية الإيحاء، جعلت الخارج على الأمر القائم، سواء أخذ سلوكه صورة نقد يوجهه إليه أو فعل يمارسه ضده، خارجا على الجماعة ووحدتها المقدسة، كافرا بنعمتها، يهز بسلوكه أو أقواله استقرارها، فلا يبقى بد، إذن، من دفع شره عن العباد. إلى هذا، فإن من لا ينضوي بلا شروط في النظام العام، يعد عاصيا وخارجا على الطاعة، بل وكافرا يجب التصدي له، كي لا يفسد من حوله، وينفث سمومه في إيمانهم.
ثمة أمثلة كثيرة تؤكد استخدام نظم علمانية لغة دينية أثناء معالجة أزماتها وما شاب علاقاتها مع مواطنيها من توتر، فقد تعمم زعماء هذه النظم واحتلوا منابر التلفزة وألقوا خطبا دينية لتعليم مواطنيهم صحيح الإيمان، وشرح معاني ‘الدين الحقيقي’، وقد قال أحد الظرفاء ذات مرة ما معناه: لكثرة ما استقبل الزعماء رجال الدين وتداولوا معهم في كل أمر وشأن، بتنا لا نعرف من يحكمنا حقا، هؤلاء أم أولئك !. والحال، لم يعد هناك من عمل لبعض رجال الدين غير تسخير معتقداتهم وفتاواهم لخدمة سياسيي بلدانهم، حتى صار من الصعب حقا التمييز بين رجل السياسة ورجل الدين، وتبيان الحدود الفاصلة بين الخطاب السياسي والخطاب الديني، فاختلط الحابل بالنابل وضاع الناس، فصدق كثيرون منهم أن من يحكمهم يفعل ذلك بأمر أو بتكليف إلهي، وأن من غير الجائز الاعتراض على أي فعل من أفعاله أو أي قول من أقواله، وإلا كان الاعتراض عليه اعتراضا على إرادة الله عقابه جهنم.
خلال الأزمة الأخيرة، لم يشذ ساسة إيران عن استخدام الدين في السياسة بطريقة تجافي الدين، فقد اتهموا الملايين الثلاثة، التي نزلت ذات ليلة إلى شوارع طهران احتجاجا على ما قيل من تزوير أصاب انتخابات الرئاسة، وقالوا إنها ضمت متآمرين على الثورة والإسلام، وإن ما فعلوه لم يكن احتجاجا شرعيا أو قانونيا بل كان فتنة. وجه متقي وزير خارجية إيران هذه التهمة إلى الملايين من مواطنيه، رغم أن احتجاجهم بهذا العدد الهائل يتفق مع منطق ونص القانون الإيراني، ويعد سلميا لم يعرف حادثة عنف واحدة، واقتصر على أمر واحد هو انتخابات الرئاسة، التي طالب بتصحيح نتائجها والتوفيق بينها وبين واقع إيران، الذي لم يختر أحمدي نجاد للرئاسة، كما اعتقد المتظاهرون.
يحدد الفقهاء وعلماء الشريعة معايير الفتنة، فهي، بين أمور أخرى، خروج على الجماعة، وتهديد لقيمها، واستخدام للعنف ضدها أو ضد ممثليها الشرعيين، وعصيان لإرادتها الجامعة في أمر يتصل ببقائها وسلامتها… الخ. وهذا لا ينطبق كليا أو جزئيا على تظاهرات الإيرانيين، الذين نزلوا إلى الشارع، فكان نزولهم تعبيرا عن إرادة قسم كبير من الشعب لم يهدد قيم الإسلام، التي لا يعقل أن تكون قيما جامعة، إن خرج عليها هذا العدد الكبير من الخلق، ولم يستخدم العنف ضد مؤسسات الثورة أو ممثليها، بل نال اعتراف حتى خصومهم في الحرس الثوري، الذين وصفوا تحركه بـ’الثورة المخملية’ تشبها بثورة تشيكيا المخملية، التي اتصفت بسلميتها، ولم يتجاوز، أخيرا، الانتخابات ونتائجها أو يقدم مطالب تتخطاها، إلا بعد تعرضه لقمع مكثف قتل خلاله بضع عشرات المواطنين وجرح المئات، بمن في ذلك مارة عاديون لا علاقة لهم بأي احتجاج. هل يصح وصف احتجاج شعبي واسع كهذا بالفتنة ؟. وهل يحق لأي كان اعتبار المشاركين فيه منخرطين في فتنة جزاؤهم القتل؟
يقول منطق الفتنة بصورة واضحة أنه لا يحق لأحد الاعتراض على الأمر القائم أو الاحتجاج عليه. ويرى إن الحاكم واجب الطاعة لأنه ينفذ إرادة الله ويحفظ الدين والجماعة، فلا يجوز الشك في صدق وصحة أفعاله، ولا يحق لغير عاص ومنخرط في فتنة الاعتراض عليه، بل ولا يجوز لأي كان تقديم النصح إليه إلا بطلب منه. ويقول أخيرا: ان أي فعل اعتراضي هو فتنة ويجب أن يقابل بأقسى القمع أو بالقتل، فالفتنة لا تتفق مع الحلول الوسط والتسويات، ولا دواء لها غير السيف أو الرصاص.
كان الاحتجاج سلميا وقانونيا، فتمت مواجهته بالقمع والقتل، بعد تحويله إلى فتنة. ألا يقول هذا الكثير عن واقع العرب والمسلمين، الذين يقر حكامهم بالكلام أنه بلغ الحضيض، لكنهم ينكرون بالأفعال حق العربي والمسلم في الاحتجاج أو الاعتراض، وإلا كان مشاركا في فتنة، واعتبر كالكافر الذي يجب قتله بلا رحمة ؟. ألا يبين كم ضاق صدر الحكام بشعوبهم، وكم بلغت الهوة التي تفصلهم، وانعدمت لغة التخاطب المشتركة بين الذين ‘فوق’ والذين ‘تحت’، وكم صار العنف بديلا للسياسة في تنظيم علاقات السلطة بالمجتمع، وكيف ينظر الحاكم إلى شعبه كعدو محتمل لا محل لأي حوار معه، ولا مسوغ لملاقاته في منتصف الطريق أو لتلبية أي مطلب من مطالبه، مهما كان بسيطا وضروريا.
في الماضي، كانت المظاهرة تسمى مظاهرة، وكان المتظاهرون يعاملون كمتظاهرين لهم حق التعبير عن آرائهم ومطالبهم، التي كثيرا ما بت في أمرها وزير ما، وانتهى أمرها بتسوية ودية أو بانصياع أحد طرفيها لإرادة الآخر. أما اليوم، فإن نزول ملايين المتظاهرين سلميا إلى الشارع تعبيرا عن حق يكفله القانون، صار’ فتنة’ لا تعامل معها بغير الرصاص. لم تعد السياسة فن إدارة الخلاف والاختلاف داخل جماعة أو دولة ما، بل صارت فن قمع المجتمع وكبت مطالبه، بالقوة الأشد بطشا. فلا عجب أن وصلت دولنا إلى ما هي عليه من تدهور وانحطاط، وفشل كل شيء فعلته، مهما كان أوليا وبسيطا، وتكون عندنا عالمان داخل كل مجتمع: واحد للقامعين وآخر للمقموعين، تقوم علاقاتهما على التنافي والتباعد، وتفتقر إلى أي نوع من التفاعل والتكامل: الضروريين لتقوية أشد المجتمعات تماسكا، وأكثر الدول قوة.
عندما يصير الاحتجاج السلمي فتنة عقوبتها القتل، لا يجد المواطن غير السلاح وسيلة تحميه وتسمع صوته. وحين تبلغ الأمور هذا الحد، تكون الفتنة فعلا من أفعال حكومات تستهتر بمسؤوليتها تجاه مواطنيها، تدفعهم إلى مواجهتها بالسلاح الذي يقتلهم، حين يعبرون عن آلامهم أو يتذمرون من أحوالهم. بقطع الحوار وإلغاء التفاعل بين الحكومة والناس، تكون الكارثة وشيكة دوما. عندئذ، لا يبقى للسلطة غير مخاطبة الناس بالسلاح، ولا يبق لهؤلاء غير استعماله ضدها. بذلك، تقع الفتنة فعلا ويعم الخراب !.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى