الاستبداد الديني… أسوأ أنواع الاستبداد
فاخر السلطان
لم أكن أرغب في الكتابة عن الاستبداد، فهو واضح وضوح الشمس في المجتمعات العربية والمسلمة. لكن ما يوجّه القلم نحو هذا الأمر هو الاستبداد الديني، الذي أعتبره أسوأ أنواع الاستبداد، لأسباب كثيرة، ولنتائجه المذهلة، ولفريقه الجماهيري الذي يملأ المساجد ودور العبادة!! فمن نتائج هذا الاستبداد الخارج من عباءة الإسلام السياسي، أن لديه شريحة كبيرة جدا من الجماهير المؤمنة غير المبالية بما يمارسه المستبد الديني وحاشيته من انتهاكات أخلاقية وإنسانية. لذلك تبدو أبرز نتائج الاستبداد الديني هي إفساد الأخلاق والدين. فهو يهيئ الأرضية لممارسة صنوف مختلفة من السلوكيات غير الأخلاقية من أجل تثبيت نفسه قائدا مطلقا مستمد مشروعيته من السماء. ويأتي على رأس تلك السلوكيات، الكذب، الذي يبنى عليه مختلف صور الظلم والوصاية والتمييز والإكراه وانتهاك حقوق الإنسان، ثم الاعتقال والتعذيب والقتل والتدمير، كل ذلك من أجل بقاء المستبد الفقيه أو الولي أو أمير المؤمنين على كرسيه، غير مبال للنقد الموجه إليه وإلى سلوكه ومقامه، لأن أصل وجوده ومشروعية كرسيه واستمراره في الحكم لم يأت من الأرض بل من الله. بالتالي “تبقى إذنيه صماء” كما يقول المفكر الإيراني عبدالكريم سروش في رسالة بعثها مؤخرا إلى مرشد الثورة في إيران آية الله علي خامنئي. يستند الاستبداد الديني إلى ما يسمى بـ”الثوابت الدينية”. لذلك تجده يفرض رأيه مستندا إلى “ثقافة المطلق”، التي تدوس على معارضيها والمختلفين معها من “الإصلاحيين” و”الليبراليين” و”المنافقين” و”المرتدين”. فخطاب الاستبداد يتضمن “مسلمات” ينبغي الإذعان لها، أو اختيار الطريق المجهول، ما يعني أن إقصاء المختلف هو الرهان لتثبيت تلك “المسلمات”.
كما أن “ثقافة المطلق” تدّعي امتلاك نظام متكامل للحياة صالح لكل زمان ومكان، لذلك من السهل أن ينفذ إلى أجندتها سحق الرأي المعارض لرؤيتها، وأن تمارس الإرهاب وتشرعن قتل الأبرياء من دون أي تأنيب للضمير. هذا ما حدث ويحدث في إيران بعد الانتخابات الرئاسية.
إن “ثقافة المطلق” تدفع بالهيمنة السلطوية المتمثلة بالمستبد الديني إلى الوصاية على العقول والأبدان، وتسعى إلى أسر حرية الفكر والتعبير في سجنها الكبير، كل ذلك لكي تتحكم بما يجب أن يقال ويقرأ وينشر وما يجب على أفراد المجتمع أن يفكَّروا فيه. بالمحصلة هي تستهدف قتل الحرية، لكنها لاتستحي من أن تمشي في جنازتها. إنها تزعم وجود سلبيات للحرية، لكنها لا تشير إلى آفات ثقافة الوصاية والهيمنة والاستبداد. فإذا كانت الحرية تجلب الفساد فإن الاستبداد يجلب فسادا أكبر. لذلك من الخطورة بمكان أن تستند “ثقافة المطلق” إلى الدين، لأنه سيتم رفض أي نقد يوجه إليها، وسيكون ذلك بمثابة نقد موجّه إلى الدين. وهنا يكمن الخطر إذ ستتلطخ سمعة الدين وستتهدد مكانته الروحية في المجتمع.
كيف يعكس المستبد الديني وجود أزمة أخلاقية في المجتمع؟ إن “ثقافة المطلق” ومواقف المستبد الديني وأنصاره لا تعير أي اهتمام بحقوق الإنسان التي أصبحت العنوان الرئيسي لموضوع الأخلاق في العصر الحديث، بل تهتم بمصيرها وبقائها في السلطة ولو أدى ذلك إلى محاصرة الإنسان بالحديد والنار والسيطرة عليه بمختلف صنوف الظلم. لكن، لماذا لم يهتم المستبدون وجماهيرهم الواسعة بحقوق الإنسان؟ أعتقد أن سبب ذلك هو عدم وجود ثقافة في منظومتها الفكرية تعير اهتماما بحقوق الإنسان، بل همّها هو استمرار الدولة الدينية برئاسة الحاكم الديني المطلق والقوانين الدينية البعيدة عن الثقافة الإنسانية الحديثة.
وحول الأحداث التي جرت بعد الانتخابات الرئاسية في إيران، يعتقد الكثير من المراقبين بأن مرشد الثورة يميل إلى المحافظين لأنهم يعززون الدور الفردي المطلق المستبد للفقيه في الحكم، ويقللون من دور الشعب ومسؤولياته. بالنسبة إليهم “السلطة السياسية ليست من شؤون عامة الناس، ورضا العامة ليس مصدرا للشرعية السياسية”، كما يقول الباحث السعودي توفيق السيف في كتابه “حدود الديموقراطية الدينية” (دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008). لذلك يخشى المحافظون من مفهوم “الجمهورية” بسبب “معناه التطبيقي، أي محورية دور الشعب في تفويض السلطة والمشروعية، إضافة إلى الدور التشريعي لممثلي الشعب في البرلمان”. من جانب آخر يتبنى التيار الإصلاحي فهما للدين والحكومة يتعارض جوهريا مع الفهم المطلق المستبد، لذلك تم سحقه بقوة. يقول السيف إن “النموذج الإصلاحي قام في وسط اجتماعي أقرب إلى مفاهيم الحداثة وتمثلاتها في المعيشة والسياسة، ولهذا فقد نحا خطابه نحو نموذج الديموقراطية والليبرالية”. ويؤكد بأن “نموذج السلطة الذي يعرضه الإصلاحيون ينطوي على تباين كبير مع النموذج الثوري (المحافظ) في أرضيته الفلسفية، وفي المفاهيم التأسيسية للنظام السياسي والاجتماعي الذي يستهدفه”.
في مقتطف من رسالته التي تتحدث عن الاستبداد الديني، والتي وجهها مؤخرا إلى خامنئي حول أحداث القمع التي تلت الانتخابات الرئاسية، يقول سروش: “أنا سعيد لأن صرخات الذين استيقظوا باكراً، وصلت أخيراً إلى السماء وأشعلت نار الانتقام الإلهي. أنت مستعد للتضحية بكرامة الله لصيانة كرامتك. أنت تقبل بأن يبتعد الناس عن الدين وعن التقوى شرط ألا يبتعدوا عن ولايتك وزعامتك. أن ينهار الدين، والتقاليد، والحقيقة، لكي يظل ثوب ديكتاتوريتك نقياً. لكن مشيئة الله لم تسمح بذلك. والقلوب المحطّمة والشفاه المكمّمة والدم المسفوح والأيدي المبتورة والتنانير الممزقة لم ترغب بذلك ولم تسمح به. الأتقياء والحكماء والأنبياء لم يكونوا يريدون ما تريده أنت. والمحرومون والمسحوقون والمضطهدون لم يسمحوا به. إنهيار وتآكل الخوف وشرعية حكم الفقيه كان أعظم إنجازٍ لانتفاضة الشرف على السلب، وقد أيقط أسد الشجاعة والقوة النائم. لقد آذن وقت حصادِ مزرعة الحركة الخضراء. لقد تضرّعنا لله لكي يحدث ذلك، والله معنا. ليس لانقلاب الموائد من دليلٍ أحلى وأرقّ من تحوّل جميع احتفالاتك إلى جنازات. إن ما كان يثير ضحكك في الماضي بات الآن يدفعك للبكاء والارتعاش. إن الجامعة التي كُنتَ ترجو أن تضفي عليك المدائح باتت كابوسك. مظاهرات الاحتجاج في الشوارع، والتجمّعات الدينية، ورمضان، ومحرّم، وطقوس الحج والعزاء، باتت جيمعاً رموزاً لطالعك السيئ وهي تعمل كلها ضدك. نحن جيل محظوظ. سوف نحتفل بانهيار الديكتاتورية الدينية. وفي أفقنا الأخضر يلوح مجتمع أخلاقي وحكومة غير دينية”.
لننتظر ما تخبئه الأيام حول مستقبل الاستبداد الديني في إيران…
كاتب كويتي