خرائط طرق» متعددة والمطلوب واحد هل يضحّي أوجلان بالسلاح؟
نظام مارديني
أشعل مصطلح «خارطة الطريق» فتيل النقاش والسباق نحو وضع حلول للمسألة الكردية في تركيا، التي لا تزال تنتظر ما سيعلنه زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من سجنه في «إمرالي» حيث يقضي عقوبة السجن مدى الحياة.
وبعيداً عن جدلية الصراع القائم بين الدولة وحزب العمال وأيهما على حق، تنشغل الساحة التركية بالبحث عن إجابة شافية لتساؤل محدد، وهو هل يطرح مصطلح «خريطة الطريق» الذي وضعه أوجلان في سياق بحثه لحل مسألة حزب العمال مع الدولة التركية، عن معادلة جديدة تبعد الحل العسكري وتفتح الباب لمقاربة جديدة للمسألة الكردية الشائكة في تركيا؟
هو سؤال وجيه، غير أن الإجابة عليه تحتاج إلى رزمة من الإصلاحات تبدأ من ضرورة إيمان الدولة، بمؤسساتها جميعاً، بحقوقية المسألة الكردية واعتبارها ليست شأناً سياسياً مطلقاً، وإخراجها من نطاقها الضيق الذي يقوده حزب العمال إلى رحابها الواسع المنطلق من المواطنة وليس العرق أو المذهب.
السؤال الأول يستدعي سؤالاً جوهرياً آخر: هل تخلى أوجلان، عن نهج العنف، ويؤيد الحوار والإسهام في حل المسألة الكردية؟
الحق أن ما تسرب عن «خارطة طريقه»، وتصريحات له تناقلتها وسائل الإعلام التركية لا تبـشر بالخـير، إذ اعتقد «أن كل المشاكل ستحل إذا أقمنا دولة»، معـلناً في هذا السياق رفضه لمشروع «الفيدرالية في العراق» في إشارة إلى «إقليم كردستان» في شمال العراق، وبين قوله عن «الجمهورية أعلنت حينذاك (1923) وينبغي اليـوم إحلال الديموقراطية فيها»، ويقصد بالطبع الجمهورية التركية، داعياً الحكومة إلى «الاعتراف بحقوق الأكراد في أن يصبحوا أمة ديموقراطية» من ناحية، ومؤكداً تخليه عن مطالبه الانفصالية، واعتراف الأكراد بالدولة التركية من ناحية ثانية.
هذا التناقض، بين إيمانه بالجمهورية التركية ومطالبته الحكومة الاعتراف بالأكراد كأمة، يشير إلى المأزق الذي يعيشه حزب العمال الكردستاني، والإرباك الذي يسببه له الاتجاه الذي يقوده رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في معالجته للمسألة الكردية، ووضع حلول لمسائل الأقليات في البلاد، كما حصل في بداية آب، عندما أجتمع مع زعماء الأقليات السريانية (الأرثوذكس والكاثوليك) والارمنية واليهودية، وقال: «من المهم بالنسبة لنا الآن أن نحتضن شعبنا البالغ 75 مليون نسمة باحترام وحب»، مكرراً رفضه للوطنية القائمة على العرق. المهم أن هذا اللقاء النادر حصل في جزيرة بيوكادا قرب اسطنبول وحضره بارثولوميو الزعيم الروحي لحوالى 250 مليون ارثوذكسي في العالم.
سارع هذا التوجه الجديد لأردوغان في استلهام «خرائط طرق» من قبل الدولة وحزب العمال الكردستاني قبل أن تتخطاهم التحولات الدولية والإقليمية الجديدة، التي تثير شكوك حزب «العمال» في قرب حصول تطور في قضيته قد تنعكس سلباً على مستقبله وأوساط «جماهيره»، وقد جاء الاجتماع الثلاثي الذي ضم مسؤولين عراقيين وأميركيين وأتراكاً، ليدعم شكوك الحزب، خصوصاً بعدما طالبت أنقرة من الولايات المتحدة والعراقيين «بنتائج ملموسة على الأرض» لمنع عناصر «العمالي» من اللجوء إلى شمال العراق، وهو ما شدد عليه وزير الأمن العراقي شيروان الوائلي الذي مثل السلطات العراقية في الاجتماع، مطالباً بدوره بمواصلة الجهود «لطرد حزب العمال» من الأراضي العراقية.
ويعود قلق حزب «العمال» أيضاً إلى اقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، الأمر الذي سيعيد رسم الخارطة السياسية وسيعطي دفعة قوية للجيش التركي لسحق مسلحي الحزب المتحصنين في جبال قنديل في شمال العراق.
إذا ما أخذنا في الاعتبار هذه الفرضية، فإن السرعة التي يتوخاها أوجلان في وضع «خارطة طريقه» ستكون أمراً طبيعياً، لكن تكثيف تركيا لجهودها لاحتواء «انتفاضة» أكرادها في هذه المرحلة، يطرح العديد من التكهنات برأي المراقبين حول سعيها لأن تكون صاحبة المبادرة إزاء تحسين وضع الأكراد من جهة، والقضاء على شعبية ونفوذ أوجلان من جهة ثانية، وقد ظهر ذلك جلياً في تصريحات أركان الحكومة التركية.
وفي رد وزير الخارجية التركي داود أوغلو بحدة على الحديث عن الخطة التي سيكشف عنها أوجلان، مؤكداً أن «تركيا ستضع حلولاً بنفسها وأن مجالات بحث هذه المسائل معروفة: مجلس الوزراء ومجلس الأمن القومي»، ولكن هل تتمكن أنقرة من قطع الطريق أمام ما سيعلنه أوجلان؟ أو بمعنى آخر هل تملك تركيا أدوات الحل للمشكلة الكردية أم أن الإصلاحات الداخلية تحتاج إلى وقت أكبر من مجرد أيام لكسب تأييد الأكراد؟
بالطبع الإجابة لا تقتصر فقط عند حد الوعود التي يطلقها المسؤولون الأتراك بل إن الأمر يفرض على الحكومة التركية وضع استراتيجية شاملة تحمل رزمة من الإصلاحات القانونية الجديدة لإعطاء هذه الجماعة المزيد من الحقوق، وهو ما بدأت به ويمكن مشاهدته بالعين المجردة، كرفع بعض القيود المفروضة على اللغة الكردية، والعودة إلى استخدام الأسماء الكردية في قرى جنوب شرق البلاد، وفتح قناة تلفزيونية تبث باللغة الكردية.
لقد وصلت تركيا في المرحلة الراهنة إلى نضج ديموقراطي، أتاح لها الجدال حول مختلف المسائل، ومناقشتها بنيّة الحل، الأمر الذي يدل على أن قابلية، الحل التي وصلها النظام السياسي، أظهر للعيان قوة وثقة مطلقة، يمكّنها من وضع أكثر مسألة مزمنة على الطريق السليم. وفي هذا الخصوص نفهم معنى تصريحات الرئيس التركي عبد الله غُل من «أن المشكلة الكردية هي أكبر قضية في البلاد ويجب حلها بسرعة»، كما نفهم دلالات تصريح أردوغان عشية لقائه رئيس حزب المجتمع الديموقراطي (كردي) أحمد ترك، إذ أشار أردوغان إلى «بدء العمل على حل المشكلة الكردية». معرباً عن تفاؤله إزاء حل المشكلة «أنا على يقين من أن فرصنا المستقبلية ازدادت بعد هذا اللقاء الذي شكل خطوة إيجابية من أجل بناء الثقة».
لا شك إن ازدهار الحريات والحقوق، وتصاعد التأثيرات السياسيات المدنية، وتحقيق أنقرة لتعاون مثمر مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والعراق، كلها أمور دفعت مسيرة الحلول إلى نقطة متقدمة.
وإذا كان أوجلان بمحاولته صياغة آلية نظرية لإلقاء السلاح، وتفكيره بما يمكنه القيام به للنزول من الجبال يكاد يصبح في وضعية البعد الأهم للمسألة الكردية فبإمكان حزب المجتمع الديموقراطي أن يكون مساعداً في عملية الحل، خصوصاً أن فشل الأخير في استخدام «الساحة الكردية» وعدم استفادته من الأجواء الديموقراطية التي تنعم بها تركيا، أفقده «البيئة الكردية» أولاً، كما خسر في جعل قضيته الأولى هي كيفية إنقاذ حزب العمال الكردستاني من التخبط الذي يعيشه.
المفارقة الكبرى في حزب المجتمع الديموقراطي تكمن في أنه ربط وجوده ببقاء حزب العمال، ولكنه كي ينقل المسألة الكردية إلى حيز السياسة على أرضية ديموقراطية، عليه إنتاج لغة سياسية تمتلك مشروعية قانونية وسياسية لكي يتعامل مع هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به بلاد الأناضول بمنطق ومسؤولية لمواكبة خريطة طريق أردوغان، وتثبيت الإصلاحات التي تجعل من الأكراد مشاركين في المبنى التركي وليسوا مجرد نواطير على بوابته. لا سيما بعد تصاعد صوت المعارضة التركية الرافض لإصلاحات أردوغان الداعي لمصالحة مع حزب العمال الكردستاني. فقد اتهم حزب العمل القومي المتطرف الذي يقوده بهجلي، حزب العدالة والتنمية بالسعي إلى إحداث «شرخ» في تركيا، من خلال مشروع «يدعو له الأميركيون».
وجاءت المعارضة الأقوى من قبل رئيس الأركان التركي الجنرال الكير باشبوغ، معلناً رفضه الانخراط في أي نشاط قد يؤدي إلى الاتــصال المباشر أو غير المباشر مع حزب العمال الكردستــاني، وذلك في رســالة واضحة لأردوغان، وتوجـهه لإنـهاء القــتال مع هذا الحزب. ولكن وبرغم هذه الأصوات النافرة يبقى صوت الروائي التركي (كردي) المشهور يشــار كمـال الأقوى في هذه المعمعة. إذ أعـلن أنه «يحترم كل مقاربة صادقة تهـدف إلى وقف إراقة الدماء وتخـطي أكبر عقبة أمام الديموقراطية» تقف في وجه تركيا.
لا شك أن الإصغاء إلى أصوات الذين يتمتعون باحترام عند أكراد تركيا إذا توفرت طريقة لإنهاء هذا النزاع الذي لا يزال يسد أفق المجتمع التركي، يجب اغتنامها وعدم رفضها قبل الإعلان عنها، كما يؤكد على ذلك آمري كنغار عالم الاجتماع التركي المعروف في مقال نشرته صحيفة «جمهوريت»، قائلاً إن «عدم الإصغاء لردود فعل الشعب على هذا «الانفتاح» قد يحبط المشروع في بداياته».
السفير