المحكمة الدولية: سجل صعب آخر ابتدأته أحزاب العراق
بغداد: شاكر الأنباري
هذه ليست المرة الأولى التي ينشق فيها الصف السياسي العراقي الى شقين، ان لم نقل يتوزع الى اتجاهات وتيارات. فكلما برزت قضية مفصلية في الشارع السياسي تبدأ الآراء والتحليلات تختلف عليها، وهذا ما حصل في اكثر من موضوع، كقانون النفط والغاز، والمصالحة الوطنية، والعلاقات مع دول الجوار، واغلق معسكر اشرف التابع لمجاهدي خلق الايرانية، واعادة كتابة الدستور، وأخيرا تفجيرات الأربعاء الدامي، التي طالت وزارتي المالية والخارجية، وقتل فيها أكثر من مئة شخص وجرح مئات، كان أغلبهم من المدنيين. الاختلافات ما يخالف قوى اخرى لمجرد المناكفة فقط، او لتصفية حسابات تعود أساسا الى قضايا سابقة. ففي أحدث تصريح لعادل عبد المهدي حول قضية الأربعاء الدامي قال فيه ان الحكومة تحاول تغطية عجزها الأمني بتصعيد الأزمة مع سوريا. ويقصد بالأزمة طلب تشكيل المحكمة الدولية. ويقصد بالحكومة دولة رئيس الوزراء نوري المالكي فقط، والا فالحكومة اليوم هي حكومة توافق تضم اغلب الكتل السياسية بما فيها كتلة عادل عبد المهدي.
هذا التصريح كشف بوضوح عمق الأزمة الداخلية بين الأطراف العراقية ذاتها. وما المحكمة الدولية الا واحدة من تمظهرات تلك الأزمة. وهي أزمة تشمل الثقة، والتهيؤ للانتخابات القادمة، وطريقة الحكم، ونفوذ الدول الاقليمية، ونسبة التمثيل الطائفي، والقومي، وصولا الى هوية البلد ذاتها. هذا وسبق لنائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي في تصريح سابق، أن ألقى بتهمة التفجير على القاعدة حصرا، ولم يشر الى البعثيين المقيمين في سورية. علما أن عادل عبد المهدي التقى قبل فترة ايضا بمثنى الشيخ راضي، وهو عضو قيادة قطر العراق ومقيم في سورية ايضا على خلفية امكانية المصالحة مع البعثيين الذين لم تتلطخ ايديهم بالدماء، كما جرت العادة في توصيفهم. والغريب هنا أن المجلس الأعلى الاسلامي يعتبر من الممانعين المتصلبين ضد عودة البعثيين الى مناصبهم في أجهزة الدولة. وطالما اتهموا المالكي بتأهيل البعثيين، الضباط خاصة، واستيعابهم في الأجهزة الأمنية والاستخبارية، ونيته التحالف مع الصحوات في غرب العراق، وهي أيضا متهمة بضمها ضباط مخابرات وبعثيين ومناصرين للنظام السابق. وهذا تناقض يلفت النظر في توجهات المجلس الأعلى كما يرى بعض المراقبين.
ويفسرون هذا التناقض على انه تناغم مع الموقف الايراني الداعم لسوريا، وتعريض بالمالكي وحزبه الذي اكتسح مقاعد المحافظات في آخر انتخابات محلية. فحزب الدعوة رفض الانضمام الى الائتلاف الوطني العراقي، المدعوم ايرانيا. ويعتقد أن حزب الدعوة سيخوض الانتخابات القادمة تحت يافطة ائتلاف دولة القانون الذي ستنضم له ربما كتل سياسية اخرى تكسر الاصطفافات الطائفية الحالية أو المستقبلية. وموقف عادل عبد المهدي من المالكي يتناغم هو الآخر مع موقف مجلس الرئاسة، وكان ممتعضا من استعجال المالكي في الدعوة لمحكمة دولية. وكثيرا ما حدثت مماحكات بين مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء، لها علاقة بالقرارات، وتوجيه السياسة الداخلية والاقليمية والدولية، وعلاقات المالكي بالقوى السياسية الأخرى. اذ ان خطوات المالكي في مجال تحسين الأمن، والدعوة لتقوية المركز على حساب الأقاليم، ومحاولة بناء جيش قوي، ووقوفه ضد فكرة الأقاليم ذاتها، واستفراده بعض الأحيان في اتخاذ قرارات مصيرية على مستوى التنفيذ، كل ذلك ازعج، ويزعج مؤسسة الرئاسة، هي المكونة من جلال الطالباني وعادل عبد المهدي وطارق الهاشمي. اذ بعض تلك التوجهات تقلق حكومة اقليم كردستان، وتتمنى لهذا السبب أن لا ترى المالكي في كرسي رئاسة الوزراء ثانية.
لذلك اعتبرت مؤسسة الرئاسة ان قرار رفع قضية الأربعاء الدامي الى مجلس الأمن لتشكيل محكمة دولية على غرار المحكمة الدولية في لبنان، هو استفراد بالقرار في قضية لا تخص رئاسة الوزراء فقط بل العراق ككل. فلا يخفى ان سوريا تمتلك ما يقارب مليون وربع مليون مقيم عراقي على أراضيها، بعض منهم يمارسون نشاطات سياسية واضحة عبر منظمات وفضائيات وتنظيمات، عدا عن كتلة مستقلة هائلة لها مصالحها ورؤاها. لذلك ليس من الحكمة، حسب تصور مؤسسة الرئاسة، استعداء سورية او تحويلها الى ساحة مواجهة. كما ان المنفذ التجاري السوري يعتبر من المنافذ الحيوية جدا للاقتصاد العراقي. ويمكن لغلق الحدود أن يخلق بلبلة في المدن العراقية كلها. فمعظم المنتجات الزراعية والصناعية تأتي من هناك، وبأسعار رخيصة نسبيا. هذا عدا عن الأواصر الاجتماعية المتينة. هناك مئات آلاف العوائل اصبحت مقسومة قسمين، هي وأبناؤها، قسم يعيش في العراق وقسم في سورية. وجاء هذا نتيجة الصراعات الطائفية السابقة، والتوترات السياسية، وانقلاب البلاد اجتماعيا وسياسيا بعد التاسع من نيسان الفين وثلاثة.
أما على صعيد القوى السياسية الأخرى فلوحظ ذات التنافر والاختلاف وهو يكرر نفسه. فحزب الأمة العراقية بقيادة مثال الآلوسي كان يحمل سورية المسؤولية كاملة، ويتضامن مع مطلب رئيس الوزراء حول المحكمة الدولية، بينما تقف الأحزاب العلمانية مثل الوفاق الوطني بقيادة علاوي وجبهة الحوار بقيادة صالح المطلك على الضد من هذا التوجه. وتتهم بشكل غير مباشر المخابرات الايرانية وتعاونها مع القاعدة في تدبير التفجير. عدد من الأحزاب تلك يؤكد على ان من دبر التفجيرات هو المستفيد من خلخلة الوضع في العراق، ويعتبر ايران هي المستفيد الأول اذ انها ترفع شماعة البعث أمام الناخبين، وبذلك يصوتون للأحزاب الاسلامية الموالية لها. كما أن اختراق الأجهزة الأمنية وتنفيذ عملية بهذا الحجم المدمر ضرب لجهود رئيس الوزراء نوري المالكي في تجيير نجاحاته الأمنية للانتخابات القادمة. وهذا يصب في صالح الكتل المرتبطة بايران مرة اخرى. من هنا فثمة اتجاهان لقراءة التفجيرات، الاول يجد ان وراءها البعثيين الموجودين في سورية، أي حزب البعث الذي يقوده يونس الأحمد واعضاء قيادة قطر العراق الآخرون. والثاني هو الرأي الذي يقول ان وراءها ايران ومخابراتها. اما الرأي الثالث القائل بتعاون طرفين، أي القاعدة وايران فهو غير موجود تقريباً، ولكنه يدور همسا في أروقة بعض الأحزاب القومية القريبة من البعث. بينما هناك طرف رابع هو اميركا، اشارت له بعض القوى السياسية ومنها التيار الصدري، الا أن هذا الاتهام لم يكن مقنعا، واعتبر من نمط الاشاعات غير المنطقية.
فانسحاب الجيش الأميركي من المدن صار حقيقة واقعة، يحسه الفرد في الشارع، مما يؤكد حقيقة أن الملف الأمني الداخلي هو من مسؤولية الجيش والشرطة العراقيين. واستغربت كثير من القوى عدم حماسة الطرف الأميركي للموضوع، واعتبرته محاباة لسوريا. ولكن رغم تباين الرؤى حول المحكمة الدولية الا ان المؤكد انها حتى لو اقيمت وبدأت أعمالها فلن تصل الى نتيجة مقنعة، أو تحقق الغرض منها. اذ ليس ثمة جهة موحدة تتابع تشكيل المحكمة، حتى داخل الحكومة ذاتها، او وزارة الخارجية، فالحماس للمحكمة مرتبك وغير مقنع. ووجود شخصيات بعثية داخل سوريا، ليس بالأمر المستنكر بالنسبة لكثير من الأحزاب العراقية، فتلك الأحزاب حين كانت في موقع المعارضة تحالفت مع البعثيين انفسهم. وكانوا يدعون حينذاك قيادة قطر العراق، وعلى رأس هذه الأحزاب الأحزاب الكردية. وكذلك المجلس الأعلى وحزب الدعوة والحزب الشيوعي. اما الأحزاب التي انشئت بعد سقوط النظام فمعظمها ليس لها اشكالية مع البعثيين كون هذه الأحزاب بنيت على قاعدة البعثيين انفسهم، وضمت حتى قياديين من حزب البعث المنحل، ومنها الوفاق الوطني وجبهة الحوار الوطني وحتى الحزب الاسلامي بنسبة ما.
المستقبل