الجرس السويدي والطرشان
خيري منصور
تلقى الصحافي السويدي رونالد بوستروم حتى الآن العديد من رسائل التهديد بالقتل عبر الانترنت ومنها كما يقول في حوار أجري معه مؤخراً ما يصفه بالنازي الجديد، لكن الرجل الذي زار فلسطين بحكم مهنته ثلاثين مرة على الأقل ازداد تماسكاً واصراراً على موقفه، بأمانة أخلاقية ومهنية وبدلاً من الاعتذار إلى القتلة كما طلب منه، يقول إن من يجب عليه أن يعتذر ويدفع الثمن هو الذي احتل وقتل ونكّل بالجثث واستأصل أعضاء الأحياء، والمعركة لا تزال في بواكيرها، فالكيان إذ يصرّ بدوره على اعتذار رسمي من الحكومة السويدية، يريد تحويل هذه الواقعة إلى سابقة، وبالتالي تقررها وتعممها على العالم خصوصاً أن تهمة معاداة السامية جاهزة ومجمدة في الثلاجة، وكل ما تحتاجه بين وقت وآخر هو مايكرويف دعائي لتسخينها، رغم أن هذه الفزاعة فقدت صلاحيتها ولم يعد العالم داجناً في اسطبلات الميديا المضللة ليواصل تصديقها، والشيء المحزن الذي قاله الصحافي السويدي مؤخراً هو استغرابه من الموقف العام للمحيط العربي إزاء ما يحدث في فلسطين، ولعله سمع أو قرأ عن صحافيين من العالم العربي يمهدون الطريق للتطبيع، ويتخلون عن أدوارهم التاريخية مقابل أجور بعضها معلوم وكثيرها مجهول.
إن الصحافي رونالد الذي نجح في تعليق الجرس يتوقع محاكمة ما، قد تكون رسمية أو يمارسها أشخاص راديكاليون، من طراز هؤلاء الذين أرسلوا إليه تهديدات بالذبح عبر الانترنت، والمثير بالفعل هو أن هذه المضايقات ضاعفت من إصرار رونالد على موقفه، فهو لا يتنكر لما رأى عن كثب وبأم العين خلال عشرات المرات التي زار فيها فلسطين وشهد على ما يجري فيها، إنه يدين العالم كله على صمته ولا مبالاته فمن لا يدين الاحتلال والانتهاك العلني لمصائر البشر هو متحالف على نحو غير مباشر مع الاحتلال فالصمت في مثل هذه الحالات يقبل الترجمة، لأنه يتحول إلى قبول، وتواطؤ.
ما يزعج الدوائر الصهيونية في مواقف من طراز موقف رونالد هو صرير البوابة العملاقة التي تراكم الصدأ على أقفالها منذ الحرب العالمية الثانية، فالابتزاز شمل أوروبا كلها، ولم تنج منه أمريكا رغم أن النازي لم يصلها بل هي التي وصلت إليه من خلال إعانتها لأوروبا في المقاومة والتحرير، ورغم كل ما قاله هذا الصحافي الشاهد إلا أنه يضيف بأن المخفي أعظم وأنه بصدد إصدار عدة مؤلفات موثقة حول انتهاك حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية.
أما الدولة التي تحولت إلى جعبة نووية وتزهو بقوتها وجبروتها العسكري، فإنها تخاف من مقالة واحدة لكاتب أعزل، لأنها تدرك أن مستوطناتها من جليد وأن سجونها من ورق، فما إن يبلغ هذا الليل الطويل الذي دام ستين عاماً نهايته حتى تذيب الشمس كل المستوطنات، تماماً كما أذابت ذات يوم جناحي ديدالوس وسقط مضرجاً بدمائه لأنهما من شمع.
وسوف يقترن اسم رونالد السويدي مع اسم بلال الفلسطيني إلى الأبد، بحيث تحذف الفروق الشكلية بين حرف وحرف وديانة وأخرى ما دام الضمير هو ما يُحتكم إليه، وما دام الزور والبُهتان لم يتسللا إلى الشهادة.
إن دولة مدججة بكل هذه الأسلحة، وبكل هؤلاء الحلفاء الأقوياء تخاف من سطر واحد يكتبه صحافي حرّ، شب عن طوق ما يبثه اعلامها من سحابات دخان وغبار لحجب الحقيقة.
إن المعركة منذ بدأت بين دولة وصحافي هي في أحد مستوياتها الرمزية تذكير للناس بالكلمة التي كانت دائماً في البدء، والتي لن تكون هناك أية خاتمة إلا بها.
الخليج