تصدر الصفحات الثقافية كأن الخراب في بلد آخر
ماذا نكتب حين تُفتح أبواب الجحيم؟
نديم جرجورة
يُعاني المشهد الثقافي في الصحافة اللبنانية المكتوبة مأزقاً خطراً. ففي ظلّ الحرائق التي تلتهم البلد وناسه، تبدو الصحافة الثقافية متغرّبة عن الحدث الأليم. وببقائها على حالها كما في أيام «الهدوء النسبي»، تُظهر انكفاءً ملتبساً في علاقتها المباشرة بالواقع المأسوي. ذلك أن الصفحات الثقافية في الصحف اللبنانية المكتوبة تعيش حرجاً واضحاً في لحظات مصيرية كهذه، ليس فقط بسبب ما جرى في الأيام البيروتية الأخيرة، بل في المنعطفات الخطرة كلّها، إذ تصطدم غالباً بحساسية المسألة المرتكزة على الانقسامات المحلية الحادّة، المذهبيّة والطائفة والسياسية والإعلامية. فقد انخرط الجميع في المعارك الطاحنة بين أمراء الحروب اللبنانية المندلعة منذ اغتيال رفيق الحريري على الأقلّ، في حين أن الصحافة المكتوبة أسرفت في الانخراط المذكور، ما أدّى إلى التباس العلاقة القائمة بين الصفحات الثقافية والأحداث الآنية الملتهبة.
مأزق إنساني
لم تغب الصحافة الثقافية اللبنانية عن المسار الدرامي للأحداث هذه كلّياً، لأنها واكبت التحوّلات الخطرة بقراءات سجالية مهمّة أثارت نقاشاً لم يخلُ من بعض الحدّة، قبل أن يسقط النصّ الثقافي السجالي في الابتذال. لكنها وجدت نفسها في مأزق إنساني وأخلاقي إزاء كل كارثة تحلّ بالبلد وناسه، ما أدّى إلى طرح سؤال علاقتها المباشرة بما يجري آنياً. فهي، بمواكبتها اليومية النتاجات المختلفة المحلية والعربية والأجنبية المعروضة في المدينة، أنجزت مهمتها الصحافية والنقدية. وهي، بنشرها أحياناً مساهمات سجالية لمناقشة الأحداث اللبنانية وامتداداتها الإقليمية والدولية، من وجهة نظر أعلى مستوى من الكلام السياسي المبتذل، مارست دوراً جدّياً في إضفاء شيء بسيط من المنطق العقلاني في مقابل الغليان السياسي والمذهبي الذي انفجر مراراً أحداثاً أمنية بغيضة. غير أن ما جرى في الأيام القليلة الفائتة، أعاد طرح سؤال العلاقة المباشرة بين الصفحة الثقافية في الصحافة اللبنانية المكتوبة والأحداث الميدانية، وأعاد التذكير بما جرى أثناء اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان واللبنانيين في صيف عام ,2006 إذ فضّل البعض حينها تغييب الصفحة الثقافية كلّياً طوال أيام هذه المأساة الحادّة («المستقبل»)، وتابع البعض الآخر عمله المهنيّ كأن لا حرب ولا خراب ولا مزيد من الانقسام اللبناني الداخلي («النهار»)، في حين وجد البعض الثالث نفسه مضطراً إلى جعل الصفحات اليومية منبراً لقراءات لبنانية وعربية وغربية متفرّقة حول الحرب وأسئلتها والمأزق اللبناني («السفير»).
هذه أسئلة لا بُدّ من طرحها: كيف يُفترض بالصحافة الثقافية أن تتعاطى مع الحدث الآنيّ غير الثقافي؟ بمعنى آخر: إزاء اندلاع الحرب المذهبية الضيّقة في شوارع بيروت ومدن لبنانية أخرى منذ منتصف الأسبوع الفائت مثلاً (أو عند اندلاع الحرب الإسرائيلية أيضاً)، كيف يُمكن لهذه الصحافة أن تشتغل، وإلى أي اتجاه تذهب؟ هل تستمرّ في نشر مقالات عدّة لا علاقة لها إطلاقاً بالأحداث العنيفة التي أصابت الجميع من دون استثناء بطرق مختلفة، أم تحاول أن تناقش بشيء من «الهدوء» فظاعة الجنون الحارق؟ هل هناك من يهتمّ بمقالة نقدية (أو بقراءتها إذا نُشرت) تتناول كتاباً أو معرضاً تشكيلياً أو فيلماً سينمائياً أو مسرحية أو أمسية موسيقية أو عملاً راقصاً (تغلب هذه العناوين على عمل الصحافة الثقافية، إلى جانب نصوص إبداعية مؤلَّفة ومترجمة)، بينما تحترق أزقّة المدينة، ويكاد المواطن/القارئ يفشل في الحصول على رغيف خبز أو زجاجة ماء؟ من يكترث بهذا الجانب الثقافي من العمل الصحافي إذا اشترى صحيفة، بينما شوارع المدينة منغلقة على بؤسها التدميري، والصالات التي يُفترض بها تقديم هذه الأعمال مغلقة ومسيّجة بالنار والدم؟ هل ان استمرار هذا العمل الثقافي الصحافي دليل مقاومة لفعل الموت(!)، أم رغبة لاواعية في التنصّل من مسؤولية المواجهة الكتابية للفعل نفسه، أم شعور ضمنيّ بأن بعض الأحداث الدامية أقوى من قدرة الكتابة على تحمّل خطورتها، أم اختيار ملتبس للطريق الأسهل بالابتعاد المطلق عن الحدث، كأن الصفحة الثقافية تصدر في جمهورية أفلاطونية، بينما القرّاء المفترضون غارقون في أبشع لحظات عيشهم؟ لا تتردّد صفحات ثقافية عن طرح قضايا ثقافية بين حين وآخر، وإن شاب بعضها افتعالٌ أو تصنّع. لكن، أليست الأحداث الدامية «قضايا» إنسانية لا يُمكن لأي مثقف متنوّر وجدّي أن يتغاضى عنها؟ أليس فعل التدمير الشامل لمجتمع وبلد قضية ثقافية يُفترض بالمثقفين والعاملين في الصفحات الثقافية مناقشتها؟ أليست حروب التصفية النهائية للبلد ومجتمعه وناسه، وانصراف الغالبية الساحقة من هؤلاء الناس إلى قبائلهم الطائفية وغرقهم في مذاهبهم الضيّقة وغيرها من المسائل، قضايا ثقافية تستحق مناقشتها وإن في ظلّ انعدام موازين القوى بين الكلمة والنار لصالح القتل والخراب؟
في مقابل هذا كلّه: إلى أي مدى يُفيد كلامٌ منشور في الصحافة الثقافية، ما دام الرصاص أقوى، والقتل أعنف، والمسلّحون لا يقرأون؟
أيهما أفضل؟
لم تعد الكلمات تنفع (ربما)، لأنها فقدت قيمتها السجالية ذات المستوى الإبداعي الراقي، ليس بسبب الحروب المتكرّرة في البلد، ما أدّى إلى انهيار القيم والأخلاق كلّها فقط، بل لأن مثقفين عديدين انحدروا بها إلى المستوى السياسي اللبناني الرخيص والمبتذل. هذا صحيح. لكن، أيهما أفضل: إصدار صفحات ثقافية بمقالات نقدية متفرّقة لا علاقة لها بالخراب الحاصل في بنية البلد ومجتمعه وناسه، أم محاولة الدفاع عن قيمة الكلمة أولاً (على الرغم من قناعة شخصية بأن هذه الكلمة لا تفعل فعلها الصدامي حالياً على الأقلّ، ولا تنقذ بلداً أو مجتمعاً من ورطة الانهيار القاتل للغالبية الساحقة من أبنائهما في لذّة القتل ومتاهة العنف وبشاعة استباحة الآخر لإلغاء وجوده)، وعن ضرورة أن يكون هناك انسجام فعلي (هل أقول تواطؤاً جميلاً) بين النصّ والحدث ثانياً، شرط أن يرتفع النص إلى مستوى إبداعي راق، بدلاً من أن يسقط في قذارة الحدث؟ أيهما أفضل: أن تصدر صفحات ثقافية صباح كل يوم دامٍ «كأن شيئاً لم يكن» في الساعات القليلة الفائتة، فتعكس اغتراب الكاتب الصحافي عن محيطه وبيئته وذاته ربما، أم يظلّ هناك أملٌ ضئيلٌ جداً في أن ينجح النصّ في إثارة رغبة ما لقراءة ومناقشة، وإن في ظلّ انفتاح أبواب الجحيم كلّها على البلد والناس والمجتمع؟ هل هناك من يكترث بمقالة سينمائية محلية أو عربية أو غربية، وبيروت لم تخرج من نفق موتها المرير؟ هل هناك من يهتمّ بحوار مع هذا السيناريست أو ذاك المخرج أو تلك الممثلة، واشتعال المدينة بنار الحقد والهذيان يُغرق الجميع في البؤس والتمزّق؟
من ناحية أخرى: طالما أن أحداً لا يهتمّ بهذا النوع من الكتابة في ظلّ الموت، فهل تراه سيهتمّ بمقالة تتلاءم والمناخ الدموي الحاد؟ أعتقد أن الفعل الثقافي مطالبٌ بالارتباط بالواقع وتحوّلاته، وإن كانت التحوّلات اللبنانية حسّاسة إلى درجة التدمير الكامل لمقوّمات العيش والسجال معاً. أعتقد أن النصّ الثقافي المطلوب في لحظات الخطر هو ذاك المصوغ من الواقع والحركة الميدانية، لمواجهة حالة الانفلات الدموي، لأن هذا النوع من المواجهة قدر المثقف الملتزم إنسانياً وأخلاقياً قضايا الحرية والنقاش النقدي وقبول الآخر والتواصل معه بلغة الحـوار، على الرغم من السطوة الوحشية للظــلاميين المتسلّحــين بالقتـل والتخريــب. أعتـقــد أن قــذارة اللحظات العنيفة التي تحاصر الجميع يُفترض بها أن تحثّ العاملين في حقل الثقافة على التمسّك بالكلمة، وإن تقلّصت قدرتها على التأثير. لكن، أي كلمة، وأي نصّ: متابعة صحافية لنشاطات غائبة عن البلد، أم كتابة سجالية تواجه فعل القتل والتخريب؟
لا أتّهم أحداً. أحاول أن أفهم مسألة العلاقة القائمة بين مهنة محدّدة وواقع متقلّب. هناك من يُساجل بالكلمة مجريات الأحداث الدامية في السياسة والأمن والجرائم المرتكبة في الناس والعمارة والاقتصاد والثقافة والإعلام. هذا جانبٌ من العمل الثقافي العام. لكن المأزق كامنٌ في الغياب شبه التام للصفحات الثقافية في الصحافة اليومية عما يحدث في الواقع الآنيّ. فمنذ منتصف الأسبوع الفائت، أُغرقت بيروت في العنف والجنون والدم، لكن الصفحات الثقافية صدرت كأن الخراب هذا واقعٌ في بلد آخر. يُقال إن كثيرين لا يريدون التورّط في صراعات طائفية ومذهبية، وإنهم يُفضّلون تحييد العمل الثقافي الصحافي عن حدّة النزاع. يكتفون بمقالة من هنا وتحليل من هناك. لكن، ألم تبدُ هذه الصفحات فاقعة في غرابتها؟ ألم تكشف تنكّراً للدورين الإنساني والأخلاقي الأساسيين لأي مثقف، والصحافي مثقف أيضاً (أو هكذا يُفترض به أن يكون)، اللذين يأتيان (أو يُفترض بهما أن يأتيا، على الأقلّ) قبل المهنة، بل بالتكامل معها في لحظة واحدة؟ أليس الصحافي إنساناً له مشاعر نابعة من إحساسه بمجريات الأحداث؟ وإذا حتّمت مهنة الصحافي عليه أن يولي أهمية قصوى للخبر والمسائل اليومية تاركاً التحليل والرأي للأمكنة المخصّصة بهما، ألا يُفترض بالعامل في الصحافة الثقافية أن ينتبه إلى خطورة بقائه في إطاره المهنيّ الضيّق، عندما تشتعل القاعات الخاصّة بعمله بالموت والدم والعنف؟
لا أجوبة
هذه كلّها تساؤلات لا أدّعي قدرة على الإحاطة بأجوبة حاسمة لها. إنها نابعةٌ من مشاعر ذاتيّة إزاء قسوة اللحظة الآنيّة ووقوعي في فخّ ثنائية المهنة وفداحة الحدث. إنها طالعةٌ من شعور حاد أصابني عند اندلاع الحلقة الجديدة من سيرة تدمير المدينة ومجتمعها وناسها المنسحقة غالبيتهم الساحقة في بؤر الزعامات المحليّة وتبعيتها العمياء لأسياد من هنا وهناك: أستيقظ صباحاً، ورائحة البؤس والعجز والفراغ والقرف تملأ فضاء المدينة القابعة في خرابها المدوّي. عندها، أتساءل بقلق: ماذا يعني أن أكتب مقالة سينمائية والموت حاضرٌ؟ هل كتابة هذه المقالة فعل حياة (لأن السينما حياة)، أم لحظة استسلام، أم حالة فراغ، أم سلوك لامبال؟ ماذا عن المقالات «الثقافية» الأخرى: هل أقرأها بالنَفَس المنفتح والهادئ نفسه الذي أعيشه أثناء قراءتي إياها في حالة مختلفة؟ إلى أي مدى تستطيع مقالة كهذه أن تخفّف من حدّة البشاعة، فتجذب قارئاً يعاني ألم الخراب في كل ثانية؟
عاشت بيروت تجربة أخرى للموت، وعاشت الصحافة الثقافية اختباراً إضافياً في مسألة علاقتها بالآنيّ والواقع. أعتقد أن حياة الأولى مرتبطة بموتها الدائم (هذا ما يبدو لي على الأقلّ). أشعر أن الثانية أعجز من أن تخرج من نفق غيابها الإنساني. إنهما محتاجتان إلى انتفاضة حقيقية وعصرية: الأولى لتحرير أبنائها من توتّرهم الدائم الذي يأخذهم إلى خرابهم وخراب مدينتهم. الثانية لتفعيل ارتباطها بالواقع، بدلاً من البقاء في التباسات الأسئلة المعلّقة، فيزداد التمزّق والانهيار وسقوط القيم.
السفير