مقهــى الشــباب الضائــع لباتريــك موديانــو: أمكنــــة ميتافيزيقيــــة
مازن معروف
في رواية «مقهى الشباب الضائع» (دار مقاليد، ترجمة محمد المزديوي)، يجمّد الكاتب باتريك موديانو، المكان الأول الذي تتكرر صوره، في لعبة الزمن والحدث. والمكان الاول كما يشير عنوان الرواية الصادرة عام 2007 بالفرنسية، هو المقهى «كوندي». هذه التقنية، في عدم زحزحة المكان، لا تشي فقط بالترميز إلى ما هو ميتافيزيقي في العمل، بل تضمن للكاتب، تحريك الحدث بخفة متفاوتة، كأنه حجر شطرنج يبتعد أو يتوسع في احتلال المربعات شيئا فشيئا. وهي مربعات العاصمة الفرنسية باريس. من هنا، يتفق كثيرون على أن رواية موديانو الأخيرة، هي رواية المكان، او محاولة كشف عوامل الارتباط السري ما بين الكائن الإنساني والكائن الإسمنتي. ولذلك، فإن هذه المكاشفة المقصودة، لا تخلو من مكاشفة جانبية، لتعرية أحياء باريس وشوارعها. ولذلك، فإن للرواية مسحة فهرسية أو طوبوغرافية، على علو منخفض من اليابسة الباريسية. موديانو لا يترك لشخوصه المجال في التخييل إلا لماما، فقط لملء فراغ، ولكسر قسوة الخسارة أو الفقد في العمل. كما أنه لا يبدو مهتما بالقسمات النفسية للأفراد. وهو لا يسعى لإقامة بنية روائية، تتوازن ما بين الداخل (البسيكولوجي) والخارج المادي (البصري). لتتماهى الشخصيات مع الأمكنة، بشكل تام، كأنها جزء من هذه الأمكنة، ولد معزولا عن التطور السياسي والانقلابات في النظم الاجتماعية للعاصمة الفرنسية.
فالكاتب لا يبدو مهتما، برفع الاختلافات الحضارية لأشخاص العمل، إلى القارئ، وهم يبدون على تماس تام، مع متطلبات العيش في المدينة الأوروبية، بل فإن موديانو لا يلتفت، ولو للحظة للفوارق في الخلفية التربوية والثقافية والحضارية التي يتميز بها زكريا عن جون- ميشيل، وعلي الشريف عن دون كارلوس، لأن المقهى، هو الخلية الاجتماعية التي ترفع الكلفة عن هذه العلاقات، وتعيد الأشياء إلى البداية: حاجة الإنسان للإنسان. وفي موازاة ذلك، فإن المعادلات النظرية تطل برأسها، من خلال النص، باستحضار لأسماء كتّاب (أداموف، لوباج، نيتشه،..)، وكتب («أناشيد مالدورور»، «الإشراقات»، «المتاريس السرية»، «لويز العدم»، «آفاق ضائعة»، «فلسفة العود الأبدي»..) تتحرك جميعها في فلك، العود الأبدي. تكون البداية، من خلال ثنائية متوازنة، ما بين فتاة، ومحقق، ومن ثم فتاة وعشيق. بين هاتين الثنائيتين، يقبع المكان ـ المقهى بخبث. المشهد الأول ينطلق منه، والمشهد الأخير، ينتهي فيه. ليتعادل الغياب المؤقت لـ «كوندي» في جسم العمل الروائي، مع استحضار شخصي يوهم بأنه ديمومي، للبطلة لوكي (من خلال عشيقها)، قبل أن يعاد للمقهى وجوده، بلؤم واضح، كتعويض عن فقدان البطلة النهائي في نهاية العمل.
هذا الأسلوب في تجسيد المكان يضمن لموديانو فسحة واسعة في اللعب بالتواريخ، في الرواية كما وتفعيل الزمن من خلال تحديد كمية الغياب والحضور المتفاوت للأشخاص. فهم يتحركون فقط بموجب حراك البطل ـ المحقق (في الجزء الأول) والبطل ـ العشيق (في الجزء الثاني) في البحث عنهم. يعاد اختصارهم، في شخصية لوكي، فضياعها يرتب على العمل أولوية، ويرتفع سريعا وبشكل حاد ليشكل الحدث الموحد ما بين جزأي العمل. المقهى في الرواية، لن يكون ذلك المكان المستهلك. ثمة حيادية مرسومة بخبث، ما بين المحقق والمقهى، وهي حيادية سيتسع بيكارها في الجزء الثاني من العمل، الذي يختلط فيه الرومانسي بالبسيكولوجي والوجودي. الرواية متخمة بالكتب والمثقفين، في مربع العود الأبدي النيتشوي، لكنها على الرغم من ذلك، لا تنوء تحت ثقل البعد الرمزي، ولا تمثل أطروحة لإعادة النظر في هذه الفلسفة المثيرة للإرباك والجدال. والمقهى، على هذا المنوال، يتم تخفيض قيمته إلى العادي، كسبيل إلى الارتقاء الأوتوماتيكي، في قيمة ذاتيته أو كيانيته. ومن هنا تنبع خصوصيته، التي تشترط خصوصية أشخاصه، ومن ثم الظروف التي أنشأت هذه الخصوصية كالتاريخ الحديث لفرنسا، والسيستم السوسيولوجي الذي يسحق كائنات تبدو كأنها أطياف (والدة لوكي التي يتم الحديث عنها غالبا بصيغة الغائب) ويعزز بالمقابل من حشرية كائن آخر (لوكي) لاستكشاف العالم، الذي هو دائما ضمن المساحة الجغرافية التي يحددها موديانو، أي باريس. الشبان والشابات لا يسعون إلا لبناء علاقة شخصية مع المكان، بمنأى تام عن الحاجة للمقهى كمعرض أفكار أو تأدية فروض يسارية مثلا، وهو كذلك لا يحمل أبعادا مجازية خرافية أحيانا كما لدى الشعراء، الذين لا تفلت رمزيته الرومانسية عن مخيلتهم. يكون مقهى كوندي بمثابة تصفية حساب مع الزمن، والتاريخ البائت، كما وتصفية حساب مع أشكال روائية سابقة، لطالما محورت أحداثها حول المقهى كماكان أليف بديل عن الشارع، سري ومعلن في وقت واحد، ومباح أمام الجميع وحتى رجال المخابرات الذين دأبنا على التريث في قراءة المقطع الروائي حينما يحضرون إلى المشهد العام. الانسان يتحرك من المكان الثانوي، إلى المكان الأساس (من الناحية الجغرافية)، فالمقهى جزء من المدينة. مكان ربما موقت، قياسا بالمدينة ذات المحتوى السوسيولوجي الأغنى، إنما من الناحية الفنية أو الروائية تحديدا، فإن نقطة الانطلاق، تبدأ من المقهى الذي يمثل السمة الأساس في العمل لتبدو باريس، وكأنها مكان حتمي فرض نفسه كملجأ لقيمة الفقد أو الخسارة اللينة، التي لا ترقى لحتمية الموت، ولا الإنتفاء، أو اليأس، ما يجعلها خسارة مغلفة بالطزاجة، جاهزة لتنزلق من بين أنامل الزمن، الأمر الذي يعتبر أحد ألعاب موديانو الروائية.
المقهى
يعيد موديانو للمقهى وظيفته الاولى، المتعلقة برمزيته كمادة من ماود المنظر العام أو الشارع، فلا حاجة للإسهاب في تفسير تموقعه، أو جدواه كمتنفس وجودي أو كملهاة. يتقاطع هذا التحديد مع فكرة نيتشه، فكأن المقهى يعود ليعيش لحظات نشأته الأولى، التي سبقت أدلجته. غير أن هذا الأمر، يسحب على المقهى جماليات تكمن في عنصرين أساسيين في الرواية، لا يعلنهما موديانو بصورة مباشرة، وللصراحة، فإن اكتشافهما ليس إلا شأن القارئ نفسه. أولا، يعلن المقهى الأشياء الأولى، الحركة الأولى للزمن، الذي يرتبط بحركة أشخاص نحدس وجودهم للمرة الأولى، ومن هنا، تنتفخ القيمة الوجودية وتتعمق العلاقة ما بين المقهى كمكان عام، وغاية «الزبائن» وفردانية كل منهم، الذين قد يكون وجود بعضهم ليس إلا موزاييكا روائيا. إذاً فإن علاقة ما تقوم بين كائن صامت، لا يتحرك، ويحمل في الوقت ذاته قيمته الوجودية ـ المادية، وهو المقهى، وكائن آخر (لوكي)، التي وجودها غير المفتعل، في المقهى، يعد سابقة لتفعيل مساحة الفكري ـ الرومانسي، وإن للحظات موقتة في العمل. أما الامر الثاني، فهو الاتساع التدريجي للمسافة الفاصلة، ما بين خط الأشخاص، الميتافيزيقي، وخط المقهى كنقطة من الزمن، أو كمرجعية لزمن مضى. فالمقهى سيتم ادخاره في العمل، إلى النهاية، حينما يقوم موديانو بمزج مصائر أبطاله ومصيره. سيتم العودة في النهاية إلى هذا المقهى، بما يحمله من حتمية الخسارة، التي تتحول الآن إلى خسارة صلبة، وثقيلة على نفس القارئ، لأنها محملة بالحقيقة الدرامية (موت لوكي). فالغياب ـ الحضور ثنائية تشكل كماشة العمل، وتحيل المكان إلى خط الإحتمالات، يحضر المكان في الجزء الأول من الرواية، في موازاة الأشخاص الغائبين، أما في القسم الثاني فالعكس هو ما يحصل. يتم تغييب المكان، كوضعه على مسافة بعيدة بعض الشيء عن العدسة المكبرة، لتأمل حيزه، دون الإسهاب في تأمل تفاصيله.
هذا التكتيك الصعب الذي اختاره موديانو، بقدر ما هو سوداوي، إلا أنه يبقي النهاية على صفيح الصدمة التي تقفل العمل، ويفتح أنهارا من الأسئلة، تشير كلها إلى غاية موديانو في صب التخييل الروائي، في مصلحة الفكر الإنساني، الذي لا يمكن أن يتحقق صفاؤه إلا بشرط القلق. لذلك، فإن خيبة موت لوكي، والمأسوية غير المتوقعة للسياق الروائي، من جهة، والتعاطف الملحوظ للكاتب مع فكرة العود الأبدي، من جهة أخرى، تتعادل في رأس القارئ، ومن هنا يكون موديانو قد نجح بتهريب روايته بعيدا عن فخ الدراما، الذي غطاه نيتشه بكل كاريزماتيته. وإلا فإنه كان ليكون لنا حديــث آخر حول هذا العمل. أي أن التعكيز على «العــود الأبدي» هو ما أنقذ موديانو من ورطة شبــه مؤكــدة في نهاية الرواية.
التقى والد موديانو بوالدته في باريس المحتلة إبان الحرب العالمية الثانية، وبدأت علاقتهما بشكل شبه سري. كان لطفولته مناخ واحد، فرضته التحولات التي طرأت على العائلة، خاصة بغياب والده الذي كان يسمع الكثير من القصص المضطربة عنه، وجولات الأم بعيدا عن الطفل باتريك، الذي تحتم عليه أن يكمل تعليمه الثانوي عن طريق المساعدات الحكومية، وقد قربه ذلك كثيرا من شقيقه رودي الذي توفي بسبب المرض وهو لم يتجاوز بعد العاشرة من العمر (أعمال باتريك موديانو من العام 1967 وحتى العام 1982 هي مهداة له). موت الأخ، كان بمثابة توقف لطفولة موديانو، التي استعادها في العديد من أعماله، كأنه عقد اتفاق مع الحنين إليها. ارتبطت أعماله في البداية، مع مرحلة ما بعد الديغولية، وإشتغل على إعادة تقييم الاحتلال والمقاومة، من خلال الأدب، وابتكاره لاحقا لشكل كتابي حديث في الرواية. ثم مدد تجربته أو تنقيبه ليطال فترة ستينيات القرن العشرين، محتفظا بالمناخات النفسية لشخوص أعماله. ثلاثيته الشهيرة عن الاحتلال، «ساحة النجمة» (1968)، «جولة الليل» (1969) ، و»بولفارات الأحزمة» (1972) يتجلى فيها افتتان ملحوظ بالعالم، من خلال الدخول إلى بسيكولوجيات أبطاله، في مناخ لا ينفلت من الحرب والمقاومة الشعبية. حائز جائــزة روجــيه نيمــيه (1978) عن روايته «ساحة النجــمة»، وجائزة غونكور عن روايته «درب الحوانيت المعتمة». وقد منحته مؤســسة (بير دي موناكــو) جائزتها كتقدير عن مجمل أعماله عام 1984. له قرابــة الثلاثين رواية، زائداً مساهمــاته في كــتابة العديد من سيناريوهـات الافــلام السينمائية. وهــو أحــد المــجددين البــارزين في الروايــة الفرنسية.
السفير