العلاقات السورية ـ التركية: شتان بين غاصب ومغتصَب
صبحي حديدي
خلال مؤتمر صحافي مشترك، عُقد في القدس المحتلة مطلع 2005، بين عبد الله غل وزير الخارجية التركي آنذاك، ونظيره الإسرائيلي سيلفان شالوم، طرح الصحافي الإسرائيلي إيهود يعاري السؤال التالي على غل: ‘هل يمكن للإقرار السوري بسيادة تركيا التامة على لواء الإسكندرون، أن يُرى كسابقة للحال ذاتها في مرتفعات الجولان؟’. وكانت إجابة غل دبلوماسية بالطبع، لكنه تقصّد أن لا ينفي الإقرار السوري بالسيادة التركية على اللواء السليب، دون أن لا يطابقه مع الإحتلال الإسرائيلي للجولان: ‘المثالان غير متشابهين، فلا يوجد نزاع حول الأراضي بين تركيا وسورية، وبالنسبة إلى الحالة الثانية قرّرت الأمم المتحدة أنّ الأرض محتلة’.
قبل هذا المؤتمر الصحافي بأيام معدودة، كان براق أكنشي، مراسل وكالة الصحافة الفرنسية في تركيا، قد غطّى القمة الثنائية بين رئيس الوزراء السوري ناجي العطري ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، وشهدت توقيع أولى الاتفاقيات التجارية النوعية بين البلدين. ولقد نسب أكنشي إلى دبلوماسي تركي قوله إنّ اتفاقاً من نوع ما’ قد تمّ التوصّل إليه حول السيادة التركية التامة على إقليم هاتاري، الإسكندرون في التسمية العربية، وطيّ المطالب السورية التي كانت محلّ نزاع بين البلدين، منذ قيام تركيا بغزو اللواء سنة 1938، قبل أن تسلخه سلطات الانتداب الفرنسية عن الجسم السوري، وتضمّه إلى تركيا. وهذا أمر لفت انتباه المعلّق الأمريكي دانييل بايبس، الذي يظلّ صهيونياً متشدداً وليكودياً حتى النخاع، ليس حسرة على أرض سورية سليبة بالطبع، بل تنبيهاً إلى أنّ النظام السوري لا ينظر بقداسة إلى حدوده مع تركيا، ويمكن استطراداً أن تكون هذه حاله مع حدوده الجنوبية!
والمرء يتذكّر تلك الفتوى الشهيرة التي اشترعها فاروق الشرع في شباط (فبراير) 2001، حين كان وزيراً للخارجية، وسُئل عن التناقض بين دفء العلاقات التركية ـ السورية والصمت عن ملفّ لواء الإسكندرون المحتلّ، فاعتبر أنّ تسوية هذه المسألة تحتاج ‘إلى سنوات عديدة ربما’. وقال الشرع: ‘القضايا التي تبدو حساسة اليوم، يمكن أن تُحلّ بسهولة في المستقبل، حين تبلغ العلاقات الثنائية مستوى لا ينطوي على صعوبات. من الخطأ إيلاء الأولوية لمثل هذه القضايا، لأنّ هذا قد يؤذي التعاون في حقول أخرى. وهي قضايا سوف تُحلّ في النهاية، ولكن يتوجب أن لا ندفع باتجاهها أكثر مما ينبغي’.
وزير الخارجية السوري، وليد المعلم (وكان في طليعة نافخي بوق المطالبة باسترداد اللواء السليب، أثناء عمله كسفير في واشنطن، حين كانت العلاقات السورية ـ التركية في الحضيض، وكادت أن تصل إلى المواجهة العسكرية)، سوف يعلّق على تطوّر هذه العلاقات، فيؤكد ‘وجود اتفاق ضمني بين الجانبين على الابتعاد عن القضايا الخلافية’، و’التركيز على عوامل التقارب والمصالح المشتركة’. وفي هذا يكون المعلّم قد أتمّ عزف النغمة التي أوحى بها سيّده بشار الأسد، وهو على الأرض التركية، مطلع العام 2004، حين اختصر سلخ لواء الإسكندرون في هذه العبارة: ‘إنها مشكلة تحتاج إلى حلّ’!
هذه تداعيات لا مناص من أن تلحّ على المشهد الراهن للعلاقات بين تركيا والنظام السوري، سيّما حين تتجه إلى تحالفات ذات طابع ستراتيجي بعيد المدى، أياً كان ذلك المدى في الحساب الفعلي على الأرض، وأياً كانت الثمارالتي يمكن أن تُجنى منه. وإذا كان تحسين علاقات سورية بأيّ من دول الجوار، الشقيقة أو الصديقة، أمر محمود من حيث المبدأ، لأنّ الحال النقيضة وخيمة العواقب في كلّ حال؛ فهل يتوجب أن يكون هذا هو الثمن: التنازل، سرّاً أو على نحو شبه علني، عن أرض سليبة لا تقلّ في قداستها الوطنية عن أية أرض سورية أخرى واقعة ضمن الجغرافيا التاريخية والقانونية التي يعتبرها الشعب السوري حدوده الوطنية السيادية؟
كذلك يوشك النظام على زجّ سورية في معركة داخلية بين السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني، الـ PKK، بعد أن كان النظام ـ في عهد الأسد الأب، وحتى العام 1998 ـ قد سعى إلى لعب الورقة إياها، وإنْ في صيغة معاكسة للحال الراهنة. ففي لقاء مع بعض الصحف التركية، قبيل بدء زيارته الأخيرة إلى تركيا، أطرى الأسد ‘المبادرة الديمقراطية’ التي تنوي الحكومة التركية إطلاقها لمعالجة المشكلتين الكردية والأرمنية، وأعلن أنّ نظامه مستعدّ للمساهمة في إنجاح تلك المبادرة عن طريق إصدار عفو عام عن جميع أعضاء الـPKK من الأكراد السوريين، إذا ألقوا السلاح. وعاد، كما يحلو له العود دائماً، إلى ‘عفو’ النظام عن مقاتلي جماعة ‘الإخوان المسلمين’ ممّن تخلّوا عن العمل المسلّح.
بادىء ذي بدء، تجاهل الأسد حقيقة بسيطة، ولكنها حاسمة تماماً في كشف النقاب عن أضاليل ذلك العفو الموعود: الغالبية الساحقة من المواطنين السوريين الأكراد المقاتلين في صفوف الـ PKK، لا يحملون الجنسية السورية، جرّاء الإحصاء الجائر الذي أسفر ـ في محافظة الحسكة وحدها، ذات الأغلبية الكردية ـ عن تجريد نحو 200 ألف مواطن كردي من الجنسية السورية، وتسجيلهم في القيود بصفة ‘أجنبي’؛ كما أسفر عن تجريد 80 ألفاً آخرين، ولكن دون تسجيلهم في القيود هذه المرّة، ممّا أسفر عن الحالة العجيبة التي تدعى ‘المكتوم’. أفلا يخشى الأسد أن تكشف المبادرة التركية سوأة سياسات النظام السوري التمييزية والقمعية، والعنصرية الصرفة في أمثلة غير قليلة، بحقّ المواطنين الأكراد السوريين؟ ألم يتجاهل الأسد سؤالاً مباشراً طرحه صحافي تركي، عن مصير 1500 من أعضاء الـ PKK السوريين، وما إذا كانت السلطة تنوي منحهم الجنسية، فتعلل بأنّ الحلّ يحتاج إلى تنسيق مشترك بين تركيا والعراق وسورية!
ثمّ، من جانب آخر، كيف يمكن فصل قضية هؤلاء المقاتلين الـ 1500، عن المسألة الكردية في دول الجوار عموماً، و’حزب العمال الكردستاني’ خصوصاً؛ وهل يمكن لهؤلاء أن يقبلوا بتسوية مع النظام السوري، أياً كانت، على حساب رفاقهم الآخرين، في تركيا والعراق؟ وهل يجوز، أو يصحّ، فصل ملفّ الأكراد السوريين عن الملفّ الأشمل للمعارضة السورية بأسرها، حيث تنخرط الفصائل السياسية الكردية في النضال من أجل سورية ديمقراطية، حيث تعاني الجماهير الكردية من استبداد النظام مثل معاناة سائر المواطنين السوريين؟ وهل ينطق الأسد بالصدق حين يتحدث عن ‘عفو’ من أي نوع جنّب، أو يمكن أن يجنّب، أعضاء ‘جماعة الإخوان المسلمين’ عقوبة الإعدام المنصوص عنها في القانون 49 لعام 1980؟
ومن جانب ثالث، كيف يستقيم أن تكون تركيا عضواً في الحلف الأطلسي، وأن يزعم النظام أنه دولة ‘ممانعة’، ثمّ يبلغ التنسيق العسكري التركي ـ السوري مستوى إجراء مناورات عسكرية مشتركة؟ وما وجهة التجانس، في المحصّلة، بين نظام ديمقراطي انتخابي تعددي، ونظام استبدادي دكتاتوري وراثي عائلي؟
وإذا كانت تركيا لا تُلام في الذهاب بهذه العلاقة إلى مدى يتيح تأمين أقصى النفع في مصالحها القومية، فهل ثمة أساس واقعي في تعويل النظام السوري على هذه العلاقة من أجل تحسين موقعه الإقليمي، وصلاته مع الغرب والولايات المتحدة؟ وهل ثمة درجة كافية، حتى في حدودها الدنيا، للتكافؤ والتبادل في هذا الميزان؟ وإذا كان من الخطأ ردّ تحسّن العلاقات إلى أنّ ‘حزب العدالة والتنمية’ التركي الحاكم قد اعتمد سياسة انفتاح على جيرانه العرب (إذْ كانت تلك العلاقات قد تدهورت بشدّة في عهد نجم الدين أربكان وحكومة ‘حزب الرفاه’)، فما أسباب تطوّرها الآن؟
على المرء أن يعود القهقرى إلى صيف العام 1998 من أجل العثور على السبب الفعلي الحقيقي لتبدّل الأمور، وانقلاب الخصام إلى وئام، واستبدال التوتّر والمواجهة بالتعاون والتكامل الستراتيجي.
آنذاك بعثت تركيا إلى حافظ الأسد رسالة وجيزة قاطعة، مفادها التالي: إمّا أن ترفع دمشق الغطاء عن عبد الله أوجلان، زعيم ‘حزب العمال الكردستاني’ PKK، فتطرده من سورية ومن البقاع اللبناني، وتغلق معسكراته، وتوقف أيّ دعم لوجستي وعسكري واستخباراتي كانت تقدّمه له؛ ثمّ تفعل الشيء ذاته مع ‘الجيش السرّي لتحرير أرمينيا’ ASALA، الذي يحظى برعاية أمنية سورية في لبنان؛ وإمّا… الحرب العسكرية المباشرة الشاملة، بوضوح وبساطة، وبلا تأتأة!
قبل الرسالة كانت تركيا قد استنفرت فرقة عسكرية كاملة لهذا الغرض، نشرتها مع قوّات أخرى مختلفة التسليح على طول الحدود مع سورية، البالغة 1347 كيلومتراً، ورفعت التصعيد اللفظي إلى سوية اتهام نظام الأسد بالرغبة في ‘استخدام مياه نهر الفرات لغسل يديه من دماء الأتراك الأبرياء’، الذين قُتلوا هنا وهناك في عمليات الـ PKK، حسب الزعم الرسمي التركي. ولا ريب أنّ الأسد الأب قلّب الرسالة التركية على كلّ وجه ممكن، ورأى من جانب أوّل أنّ أنقرة لا تمزح هذه المرّة؛ وأنّه، من جانب ثانٍ، لا يملك الكثير من الخيارات، أو لم يكن أمامه سوى تنفيذ ما يطلبه الأتراك. وهكذا انحنى الأسد الأب، وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1998، غادر أوجلان الأراضي السورية واللبنانية إلى غير رجعة، أو بالأحرى غادرها إلى حيث يقيم الآن بالضبط: في المعتقل التركي!
ولقد خسر الأسد الأب ورقة أساسية، كانت الوحيدة بين يديه في إدارة توازن من أيّ نوع مع الأتراك، أو على الأقلّ في حيازة هامش مناورة لا مناص منه إذا استوجب المستقبل مقايضة أنقرة على أيّ شيء. الأرجح أنه، وفي ما يخصّ العوامل التربوية والثقافية الفردية والعائلية التي كوّنت شخصيته، كان يميل غريزياً إلى الارتياب في الأتراك، بوصفهم أحفاد العثمانيين تحديداً. كذلك كانت تركيا قد ذهبت أبعد ممّا ينبغي في احتكار مياه نهر الفرات، وباشرت سلسلة من السدود التي تهدّد الأمن المائي السوري في الصميم، وهذا خطر داهم لم يكن في وسع الأسد الأب مجابهته عن طريق أجهزة الأمن أو تشديد قبضة الإستبداد!
كذلك كانت الجارة تركيا تضرب مثلاً سيئاً في ناظر السلطة (هي قدوة حسنة في ناظر المواطن السوري!)، خصوصاً حين أخذ هذا الأخير يتلفّت حوله ويرى انهيار الأنظمة الشمولية واحدة تلو أخرى، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثمّ يرى بقاء الإستبداد السوري، وتحوّله رويداً رويداً، على نحو منهجي واضح للعيان، إلى استبداد وراثي. صحيح أنّ الديمقراطية التركية ليست أبهى نماذج الديمقراطية في العالم، ولكنها في الحساب الأخير تقوم على انتخابات حرّة، وتداول سلمي للسلطة، وحرّيات مدنية. الأبلغ مغزى، ربما، أنّ الديمقراطية التركية لا يغيب عنها العسكر والجنرالات، وهي إسلامية المنشأ، آسيوية، شرق ـ أوسطية!
شتان، إذاً، بين الطرفين اللذين أعلنا تحالفاً ستراتيجياً اليوم: نظام إستبدادي تابع يعتمد في بقائه، وفي قسط كبير من قوته، على أزمات الآخرين؛ وحكومة منتخبة ديمقراطياً، تتطلّع إلى دور إقليمي أساسي وحيوي. والبون شاسع بين غاصب يتمسّك بأرض سلبها بالقوّة، ومغتصَب يصمت عن أرضه لقاء ثمن سياسي بخس… أقرب إلى المجان!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –